زيادة الرواتب واستدامة اوضاع المالية العامة

05/08/2013 16
د. علي بن جاسم الصادق

مع الارتفاع الكبير في المستوى العام لأسعار السلع والخدمات، اصبح متوسط الأجور والرواتب لدينا لا يكفي لسد الحاجات الأساسية التي تحقق الرخاء الاقتصادي لأفراد المجتمع، مما جعل البعض ينادي بزيادة في الأجور والمرتبات للقطاع الحكومي. وكما هو الحال انقسمت الآراء إلى قسمين؛ الأول يرى أن زيادة  الأجور والرواتب ستعمل على تحسين الأوضاع المالية والاقتصادية للأفراد، بينما يرى الفريق الأخر بأن الزيادة ليست في صالح المجتمع وذلك لان الزيادة ستولد ضغوط تضخمية ستصاحبها زيادة في الأسعار بمعدلات أعلى من الزيادة في الأجور والرواتب وبالتالي ليست هناك أي جدوى من الزيادة.

 بعبارة أخرى، سنعيش حالة "توهم النقود" الكنزية (Money Illusion) ، أي إن الزيادة في الرواتب لن تعمل على رفع القوة الشرائية للأفراد وأنما زيادة أسمية في دخول الأفراد. في المقابل حتى الآن لم يتم مناقشة تأثير هذه الزيادة (فيما لو حدثت) على استدامة اوضاع المالية العامة (Fiscal Sustainability) .

يُعتبر مفهوم استدامة أوضاع المالية العامة من مفاهيم الاقتصاد الكلي المرتبطة بالعجز المالي الحكومي المستقبلي وتطور الدين العام في الأجل الطويل، وقدرة الحكومة على  تمويل العجز المالي وتخفيض عبء الدين العام، بدون إحداث أي تغييرات جوهرية في السياسة المالية الحكومية بطريقة تؤثر على الاقتصاد الوطني بشكل سلبي. وبالتالي تعتمد استدامة أوضاع المالية العامة على التطورات والاتجاهات المستقبلية للإيرادات والنفقات الحكومية. 

حسب البيانات المنشورة في تقرير صندوق النقد الدولي لمشاروات المادة الرابعة مع المملكة لعام 2013م وصلت الأجور والرواتب الفعلية للقطاع الحكومي لعام 2012م حوالي 317 مليار ريال، أي ما نسبته 35 في بالمئة من إجمالي المصروفات الحكومية و 28 في المئة من إجمالي الإيرادات النفطية. فيما وصل الأنفاق الاستثماري الحكومي لنفس الفترة حوالي 262 مليار ريال، أي ما نسبته 28 في المئة من إجمالي المصروفات. أي ان بند الأجور سيتأثر بالنصيب الأكبر من ميزانية الحكومة.  

لنفترض أن الحكومة قامت بزيادة الرواتب والأجور بنسبة 50 في المئة. مع فرضية بقاء الإيرادات النفطية عند نفس المستويات وافتراض أن معدل النمو في القوى العاملة في القطاع الحكومي يساوى صفر (عدد الموظفين الجدد يساوى عدد المتقاعدين) سيشكل بند الأجور والرواتب للقطاع الحكومي بعد الزيادة نحو 42 في المئة من إجمالي الإيرادات النفطية. أي أن حوالي النصف من الإيرادات النفطية سيذهب لتغطية نفقات غير إنتاجية لا تحقق أي قيمة مضافة للاقتصاد الوطني. 

وبالتالي فأن النتائج ستكون أما أن تقبل الحكومة بتحقيق عجز سنوي في موازنتها المالية بمقدار الزيادة هذه أو تخفيض الإنفاق على العناصر الأخرى للموازنة العامة خصوصاً النفقات الاستثمارية. وهذا ما حدث فعلاً في التسعينيات من القرن الماضي، عندما انخفضت أسعار النفط العالمية. فقد عانت الحكومة من عجز في ميزانيتها على مدار 22 سنة، ووصول الدين العام كنسبة من إجمالي الناتج المحلي لحوالي 120 في المئة. فأول الضحايا كان الإنفاق الاستثماري الحكومي الذي وصل إلى حوالي 7 في المئة من إجمالي المصروفات الحكومة عام 2000م.

 كما إن منشأ أزمة الديون العامة في اليونان، بالإضافة إلى التلاعب في البيانات، هو قيام الحكومة في السنوات الأخيرة التي سبقت الأزمة بزيادة الأجور والرواتب لموظفي القطاع العام دون محاولة رفع إنتاجية الموظفين مما ولد ضغوطا كبيرة على استدامة أوضاع المالية العامة والتي نتج عنها عدم مقدرة الحكومة في النهاية من تمويل عجزها المالي وخدمة أعباء ديونها الخارجية.

لاشك أن دخل الأفراد قد نخفض بشكل كبير خلال السنوات الماضية. فلو استخدمنا الرقم القياسي لأسعار المستهلكين لوجدنا أن الأجور بالأسعار الثابتة لعام 1999م قد انخفضت بحوالي 40 في المئة، وبالتالي لرفع الدخل الحقيقى للأفراد ليكون مساوياً لمستويات الدخول عام 1999م، يجب زيادة الأجور بنسبة لا تقل عن 40 في المئة. ولكن هذه الزيادة قد تخلق مشاكل اقتصادية أخرى.

 فأول هذه المشاكل إحداث ضغوط تضخمية في حالة عدم استجابة العرض الكلي لمواكبة الزيادة في الطلب الكلي الناتجة عن الزيادة في الرواتب والأجور. تعتمد احتمالية حدوث ضغوط تضخمية على مدى ديناميكية الاقتصاد من حيث مدى استجابة العرض والأسواق للزيادة في الطلب الكلي. والمشكلة الثانية والأهم هي خلق حالة من عدم اليقين في استدامت اوضاع المالية العامة، حتى مع عدم زيادة الرواتب والأجور وذلك لقيام القطاع الحكومي بعملية التوظيف المستمر فأن بند الأجور والرواتب سيرتفع في المستقبل. فما الحل إذاً؟

في تصوري تكمن المشكلة الأساس لأغلب المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها اقتصادنا هو استمرارية الاعتماد على مصدر وحيد للدخل وعدم المقدرة على تنويع القاعدة الإنتاجية حتى الآن. فعلى الرغم من محاولة جميع خطط التنمية الخمسية المتعاقبة على تقليل الاعتماد على مصدر واحد للدخل، ما زالت تشكل الإيرادات النفطية حوالي 93% من إجمالي الإيرادات الحكومية في عام 2012م، والصادرات النفطية حوالي 88% من إجمالي الصادرات.

 وبالتالي يجب صياغة سياسات واستراتيجيات جديدة للخروج من هذه الحلقة المفرغة. فبدون تنمية القطاع الخاص بحيث يستوعب الجزء الأكبر من طالبي العمل في المستقبل، والعمل على زيادة الإيرادات غير النفطية، ستبقي الخيارات أمام صانعى القرار محدودة جداً.