عقدت «المنظمة العربية لمكافحة الفساد» ندوتها السنوية هذا العام بين 6 و7 حزيران (يونيو) في بيروت تحت عنوان «إصلاح صناعة الإنشاءات في الأقطار العربية».
ولا شك في أن قطاع الإنشاءات، يمثل حقلاً خصباً للفساد الإداري والمالي، خصوصاً في البلدان العربية.
لكن الحوار حول مسألة قطاع الإنشاءات يجب ألا يقتصر على قضية الفساد، على رغم أهميتها، نظراً إلى الدور المحوري للقطاع في الاقتصادات العربية والتوظيفات المالية التي تجري من خلال آلياته.
وتعزز دور هذا القطاع في مختلف البلدان العربية منذ أربعينات القرن الماضي، خصوصاً بعدما أصبح النفط المصدر الأساسي لتمويل مختلف النشاطات الاقتصادية في البلدان العربية.
ومكّنت الإيرادات النفطية من إنجاز العديد من المشاريع الحيوية في المرافق والخدمات والبنية التحتية في بلدان عربية عدة، مثل بلدان الخليج، والبلدان النفطية الأخرى مثل العراق وليبيا والجزائر.
وكان لقيام مؤسسات التمويل العربية مثل الصناديق التنموية دور أساسي في تمكين بلدان عربية أخرى غير نفطية، من تطوير بنيتها التحتية ومرافقها الحيوية ما أوجد فرص عمل للقطاع الإنشائي في هذه البلدان.
لكن التساؤل المهم الذي طرح خلال مداولات الندوة هو: هل أُنجزت هذه المشاريع الإنشائية في مختلف البلدان العربية بموجب معايير اقتصادية مثالية، أو بمقتضى المواصفات والمقاييس المتعارف عليها دولياً، وهل كانت تلك المشاريع ذات جدوى اقتصادية أو اجتماعية؟
ينطبق هذا التساؤل ربما على مختلف الأعمال في مختلف القطاعات الاقتصادية. وتؤكد البيانات الاقتصادية العربية أن قطاع الإنشاءات أسرع نمواً من أي القطاعات الرئيسة الأخرى مثل الزراعة والصناعة.
كذلك تحقق النشاطات ذات الصلة بالقطاع الإنشائي نمواً أفضل في قطاع الصناعة مثلاً، إذ ترتفع معدلات النمو والربحية في أعمال صناعات الإسمنت والحديد والطوب.
لكن العديد من النشاطات التي اعتمد قطاع الإنشاءات عليها لتحقيق نتائجه الواضحة والمتميزة، مثل إقامة مشاريع الطرق والمستشفيات والمدارس وغيرها من مشاريع البنية التحتية التي جرى اعتمادها وفق متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلدان عربية عدة، ربما نفذت بتكاليف عالية تزيد عن التكاليف العادلة لضعف الإدارات الحكومية المشرفة على عمليات تقويم العروض وفحصها ومن ثم الإشراف على التنفيذ.
وهناك عمليات التأجيل في اتخاذ القرار والترسية والشروع في التنفيذ بما يزيد من التكاليف بفعل التضخم، وتمدد الوقت الذي تستغرقه عمليات التنفيذ.
ومن الأسباب التي تؤدي إلى ارتفاع التكاليف ضعف القدرات التنفيذية الوطنية إذ تعجز شركات المقاولات في بلدان عربية عن تنفيذ المشاريع الكبرى ما يستدعي اللجوء إلى شركات عالمية لإنجاز تلك المشاريع وهي شركات تحتسب عوامل المخاطرة وحسابات الوكلاء المحليين بما يؤدي إلى ارتفاع قيم العروض التي تقدمها.
ومثلت بلدان الخليج العربي ساحة مثالية لقطاع الإنشاءات إذ ارتفعت وتيرة الأعمال في هذه المنطقة من العالم منذ بداية تصدير النفط الخام منها أواخر أربعينات القرن العشرين.
لكن هذه الوتيرة تسارعت خلال السنوات الماضية وبلغت عام 2012 قيمة الأعمال 16.2 بليون دولار في الإمارات و15.6 بليون في السعودية و10.4 بليون دولار في قطر وثمانية بلايين دولار في الكويت.
وغني عن البيان أن هذه المبالغ تمثل أهمية في هذه الاقتصادات الخليجية ولا بد من أنها ساعدت في تنشيط أعمال عدة وإيجاد فرص عمل للعمال الوافدين. ومعلوم أن تنفيذ المشاريع في بلدان المنطقة يتفاوت في الجودة وفي زمن التنفيذ نظراً إلى التباين في أداء الإدارات الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص في بلدان الخليج.
فالكويت، مثلاً، تعتبَر نموذجاً للبطء في التنفيذ وتعقيدات الإدارة الحكومية ومصاعب الدورة المستندية ومشاكل التدخل السياسي الذي قد يؤدي إلى تعطيل ترسية الأعمال على المقاولين.
ولا بد من أن تؤدي هذه المعضلات إلى ارتفاع التكاليف مع مضي الوقت.
في المقابل، تتمتع الإمارات، مثلاً، بقدرات أفضل في عمليات طرح المشاريع ومناقصاتها ثم ترسيتها.
بيد أن هناك مشاريع عدة أنجزَت في مختلف بلدان المنطقة الخليجية لم تكن ذات أهمية اقتصادية واجتماعية وشكلت عبئاً على النظام الاقتصادي.
فكثير من المشاريع العقارية مثل الفنادق والمنتجعات ومباني المكاتب والشقق السكنية لم يجرِ احتساب جدواها الاقتصادية في شكل متقن فباتت تمثل عبئاً على النظام المصرفي الذي أمّن لها تمويلات مهمة.
واضطرت مصارف عدة إلى تخصيص أموال مهمة لمواجهة عجز المقترضين عن أداء خدمات الديون بعدما تراجعت معدلات إشغال تلك المباني وانخفضت المعدلات الإيجازية.
لا بد من أن نستنتج أن أموالاً مهمة وظِّفت في مشاريع لم تكن تحظى بالميزات النسبية، ولم تتمتع بالجدوى الاقتصادية، ما عطل توظيف الأموال في أدوات استثمار أكثر جدوى.
واضطرت حكومات بلدان المنطقة إلى التدخل لتعويم عدد من الشركات، فتملكت حكومة أبو ظبي العديد من الأصول العقارية في دبي لتفادي المصاعب التي يواجهها ملاك تلك العقارات، وخصصت حكومة الكويت محفظة استثمارية تدار من قبل «الهيئة العامة للاستثمار» بمبلغ بليون دينار كويتي (3.5 بليون دولار) لاقتناء أصول عقارية من الشركات المالكة.
وبذلك وظِّفت أموال عامة لتعويم شركات ورجال أعمال أقدموا على إنجاز مشاريع قد لا تكون ذات منافع اقتصادية واجتماعية كبيرة.
نقلا عن جريدة الحياة