بعد انقضاء ستة أشهر من السنة المالية، أبصرت الموازنة العامة للدولة بأرقام أكثر انفصالاً عن الواقع من أي وقت مضى، على الرغم من بعض العمليات التجميلية التي أجرتها وزارة المالية في عجالة من الوقت.
حتى الساعة يخلو موقع وزارة المالية من أي بيانات مالية شهرية للعام المالي الحالي 2012 /2013، لكن أسعار النفط معلومة للجميع، إذ افتتح العام (مطلع أبريل) على أسعار تتجاوز 120 دولاراً، وظلت الأسعار فوق الـ110 دولارات لأسابيع عدة، ولم تنخفض إلى مادون الـ100 دولار إلا لفترات محدودة في شهري يونيو ويوليو. أي أن متوسط سعر الخام الكويتي لم يكن يقل بأي حال من الأحوال عن 100 دولار في النصف الأول من السنة، بل ربما يكون قريباً من 110 دولارات.
هذا يعني أن الموازنة الصادرة بمرسوم ضرورة، حين تفترض سعراً تقديرياً للنفط عند 65 دولاراً كمتوسط سنوي، فإنها في حقيقة الأمر تفترض متوسط سعر يتراوح بين 20 و30 دولاراً على امتداد الأشهر الستة إلا قليلاً المتبقية من السنة، وهذا ما لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تحوّلت مياه المحيط الأطلسي صباح الغد إلى نفط خفيف بمواصفات خام غرب تكساس.
بناء على هذه الافتراضات الخيالية تتوقع الموازنة إيرادات بنحو 13.93 مليار دينار، وهو رقم من المحتمل أن يكون قد دخل بالفعل إلى الخزينة العامة في ما مضى من العام! ليس هناك سبب واحد مقنع لهذه الإهانة الحكومية لكرامة الرقم. ببساطة، باتت أرقام الموازنة العامة- في جانب الإيرادات النفطية على الأقل- أضحوكة لا تنطلي على طفل.
الوظيفة التخطيطية للموازنة مفقودة في الكويت منذ عقود، إذ كيف تخطط الدولة لإيرادات خارجة عن توقعاتها عن سابق إصرار؟
يبقى من التخطيط فقط الجانب المتعلق باعتمادات المصروفات، وهذه معلومة الحال. اعتمادات المشاريع ترحّل من سنة إلى سنة بسبب ضعف نسب التنفيذ، فيظل الشق الجاري من المصروفات طاغياً على الإنفاق الرأسمالي بمعدل عشرة إلى واحد.
لا يقلل ذلك من أهمية إقرار الموازنة، لتحرير الإنفاق على المشروعات من التعطيل، خصوصاً وأن وزارة المالية أعطت إشارات إيجابية إلى نوايا الإصلاح بتقليصها المصروفات بنسبة 5.5 في المئة. مع الإشارة إلى أن رقم الـ22 مليار دينار الذي كان مرصوداً للمصروفات في مشروع الميزانية المحوّل إلى مجلس الأمة، كان السبب "المعروف" لغضب محافظ بنك الكويت المركزي السابق الشيخ سالم عبد العزيز الصباح واستقالته من منصبه.
ثمة حسنة أكيدة تُحسب لوزير المالية نايف الحجرف في موازنة هذا العام، تتمثل برفع نسبة الاستقطاع لصندوق الأجيال القادمة إلى 25 في المئة. وهذا إصلاحٌ لا بد منه لتحقيق قدر أكبر من توزيع الثروة بين الأجيال من جهة، ولئلّا تظل أرقام الفائض تدغدغ الطامعين بالمزايا والكوادر والزيادات، من دون ربط ذلك بالإنتاجية وحقيقة الوضع المالي للدولة في الأمد البعيد.
لكن هذه الخطوة تبقى أقل من أن تكون إصلاحاً جذرياً للتشوهات التي تحدثها الإيرادات النفطية في المالية العامة.
الإصلاح الكبير، الذي ما زال يبدو حالماً وأفلاطونياً، هو إخراج الإيرادات النفطية من الميزانية وعزلها في صندوق سيادي مستقل، وفق النموذج المطبق في النرويج ودول أخرى، بحيث تحصل الميزانية على دعم من هذا الصندوق بنسبة معينة من المصروفات الحكومية السنوية أو بمبلغ مقطوع.
بإصلاح كهذا تصبح الحكومة مجبرة على تدبير شؤونها ووقف الصرف بلا حساب.
ابق على اطلاع بآخر المستجدات.. تابعنا على تويتر
تابِع