عندما يطبع بن برنانكي النقود بلا حدود لشراء الأصول المالية في أميركا، بغرض تحفيز الاقتصاد، يصبح السؤال مشروعاً عما يمكن للسلطات المالية والنقدية فعله عندنا إذا كان الحلال في أميركا حراما في الكويت.
يحظى مبدأ «شراء الدولة للأصول» في الكويت بأسوأ صيت ممكن. ما إن تُطرح الفكرة حتى تُنحّى الضرورات الاقتصادية جانباً ويبدأ التدقيق في هويّة المستفيدين المحتملين، ثم يعلو الكلام عن أصحاب المصالح والتنفيع وإنقاذ المتعثرين الضالين المضلّين.
لذلك يجد كثيرون حرجاً في الدفاع عن أي مقترح لتحفيز الاقتصاد من خلال أدوات شراء الأصول المالية وغير المالية، سواء كانت مسمومة أم غير مسمومة. ولذلك أيضاً لم تقم السلطات النقدية والمالية، طوال أربع سنوات من الأزمة، بأي خطوة للتحفيز يمكن أن يسجلها التاريخ. المحاولة اليتيمة كانت عبر قانون تعزيز الاستقرار المالي، الذي انتهى به الأمر إلى برنامجٍ مسخٍ لم ينقذ ماء وجهه إلا دخول «دار الاستثمار» تحت عباءته.
فلنقارن الأمر بالولايات المتحدة. منذ بداية الأزمة حتى الآن، ضخ مجلس الاحتياط الفيديرالي (البنك المركزي الأميركي) 2300 مليار دولار أميركي لشراء أصول مالية، أي ما يفوق 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي. يعادل الرقم بمقاييس حجم الاقتصاد الكويتي 6 مليارات دينار تقريباً.
وها هو مجلس «الاحتياط الفيديرالي» يطلق الآن الجولة الثالثة من شراء الأصول، بقيمة 40 مليار دولار شهرياً، وبلا حدود، إلى أن ينمو الاقتصاد وتنخفض البطالة إلى حد مقبول.
يعطي ذلك فكرة عن الحدود التي يمكن أن تصل إليها «مسؤوليات» البنك المركزي في تحفيز الاقتصاد. فهي هنا لا تتوقف عند حدود تأمين سلامة القطاع المصرفي أو التحكم بمستوى السيولة وسياسات الائتمان ومعدلات الفائدة والتضخم، بل تتعدى ذلك إلى الالتزام الكامل بتوفير الأدوات النقدية اللازمة للنمو وخلق فرص العمل.
بالطبع، ليست مهام البنك المركزي واحدة في جميع دول العالم، فالنماذج عديدة لتوزيع الأدوار بين السلطات النقدية والمالية. لكن هناك ما يدعو بنك الكويت المركزي للنهوض بعبء أكبر في الخروج من الأزمة، لأسباب تتعلق به وأخرى تتعلق بسواه.
وهم الإنفاق الاستثماري
أولى تلك الأسباب أن الوقت حان للتخلي عن وهم أن الإنفاق الاستثماري الحكومي هو الحل الوحيد الممكن للمشكلة. فشلت خطة التنمية الحكومية في زيادة الإنفاق بنسب معقولة، وبات واضحاً أن قدرة الجهاز التنفيذي للدولة على تنفيذ المشاريع محدودة.
فخلال العام الماضي لم يشكل الإنفاق الحكومي الاستثماري الفعلي أكثر من 64 في المئة من الاعتمادات المخصصة له في ميزانية الدولة، والبالغة 2.8 مليار دينار، أي أن هناك مليار دينار لم تتمكن الحكومة من إنفاقها العام الماضي على الرغم من أنها مرصودة بالفعل في الميزانية، ولا تحتاج إلا حركة ذات بركة. بعد هذا العقم، من عقم التفكير التمسك بعلاج وحيد للأزمة بالإمكان توفير بدائل له أو حلول موازية له.
صحيح أن الإنفاق الاستثماري شكل الأداة الأبرز لتحفيز الاقتصادات في دول الخليج خلال الأزمة، نظراً لتوفّر الفوائض الحكومية أكثر من أي مكان آخر في العالم، لكنه لم يكن بديلاً عن أدوات شراء محافظ الأصول المتعثرة ومحافظ الرهونات.
وحدها الكويت من بين كل دول العالم سطّرت الفشل الذريع في المسارين النقدي والمالي معاً. وئدت في مهدها فكرة شراء الأصول حين طرحها فريق الإنقاذ الأول برئاسة محافظ البنك المركزي السابق الشيخ سالم الصباح، وتم اختزال الأمر بأنه إنقاذ للمذنبين فظهر الوهم بأن العلاج الوحيد يكمن في الإنفاق الحكومي.
لماذا هو وهم؟
للمفارقة، لم يكن الإنفاق الحكومي على المشاريع هو الحل للأزمة المالية العالمية في معظم الدول المتقدمة! يعود التاريخ الأبرز لفكرة التحفيز عبر الإنفاق الاستثماري الحكومي إلى «الكساد الكبير» في ثلاثينات القرن الماضي، لكن أزمة «الركود الكبير» في 2008 لم يتم علاجها بهذه الوسيلة، بل بشراء الحكومات للديون والأصول المسمومة. هكذا أممت الولايات المتحدة شركات السيارات وعدداً من المؤسسات المالية، وانطلقت برامج شراء الأصول المالية. وحذت الحكومات حول العالم الحذو نفسه.
أزمة الكويت ليست استثناءً. هي أزمة مالية بالدرجة الأولى. بدأت بانقطاع خطوط الائتمان الخارجية وهبوط أسعار الأصول في سوق المال وصعوبة التخارج من الأصول، ما أدى إلى جفاف السيولة لدى الشركات المالية وتعثرها في سداد التزاماتها.
الحلول كان من المفترض أن تكون بأدوات من جنس الأزمة، عبر شراء أصول بسندات ريبو، أو سواها من الأدوات، لا بطرح شركات مساهمة في المزاد في توقيت تعجز فيه الشركات عن توفير السيولة لسداد التزاماتها!
يصح أن يكون الإنفاق الاستثماري هو الحل الوحيد للأزمة لو لم تكن البنوك متخمة بالودائع. لكن مشكلة السوق تكمن في انخفاض تقييمات الأصول (المدرجة وغير المدرجة)، وجمود تداولاتها، بسبب ضعف الثقة. والحل الأقرب يكمن في استخدام الأموال السيادية المكدسة لتحريك هذا السوق.
فلو تم دعم السوق بأدوات فعّالة واستُخدمت أدوات من قبيل سندات إعادة الشراء (الريبو) لتحريك أصول جامدة، لتحسنت الأسعار وعولجت أزمة سلسلة طويلة من الدائنين والمدينين، من دون أن يكلف ذلك المال العام شيئاً.
الصحيح في بداية الأزمة يصح أكثر الآن.
البنوك تحملت من جيوب مساهميها تكاليف المخصصات الكبيرة، ومازالت تعاني من انخفاض أسعار الرهونات وعدم قدرة عملائها من الشركات على السداد، والشركات الاستثمارية التي انتزعت شوكها بيدها بتسويات مع الدائنين، تقف عاجزة عن تسييل أصولها لتطبيق تلك التسويات.
هنا عمق المشكلة الذي لو وجدت له السلطات النقدية حلاً، على طريقة البنوك المركزية الأميركية والإنكليزية والأوروبية، لتغيّر الحال تماماً.
لقد أفرغ البنك المركزي كل ما جعبته من أدوات نقدية تقليدية تقريباً. خفّض الفائدة إلى أدنى مستوى تاريخي لها، وسعى في ضمان الودائع، وأدخل تعديلات على نسب القروض إلى الودائع بما يسمح للبنوك بإقراض المزيد، وزاد رصيد توظيفات البنوك لديه، وضخ الودائع الحكومية في البنوك إلى حد غير مسبوق تجاوز الخمسة مليارات دينار.
النتائج بدت هزيلة في وجه من الوجوه. لم ينمُ الاقتصاد بالنسب المأمولة، ولم يخرج القطاع الخاص من أزمته، ولم يتجاوز نمو الائتمان 3 في المئة منذ بداية العام، جلّه من القروض الشخصية والاستهلاكية التي غذتها زيادات الرواتب، فيما قروض القطاعات المنتجة شبه جامدة.
المقولة السارية بين العديد من الاقتصاديين- بأن البنك المركزي قام بما عليه والمسؤولية تقع الآن على السياسة المالية- لا تعفي السلطات النقدية من طرح حلول أكثر جذرية، من دون أن يخرج عن حدود صلاحياته.
يحتاج الأمر إلى بعض الإقدام الحكومي، وإلى صوت موحّد للقطاع الخاص. تبلغ نسبتها 191 في المئة من الناتج المحلي.
شكرا على المقالة
يأخذُ بعض المفكرين على برامج التيسير الكمي في أوربا وأمريكا بأنها مكأفاة للمخطئين وقراراتهم الخاطئة أو الفاسدة .. كما أنها تعملُ على إضعاف آليات السوق وفعاليته بتصفية الردىء عن طريق الإفلاس والطرد!!!... ولتخفيف الإعتراضات أمام برامج التيسير الكمي هو توجيهها نحو شريحة أكبر من المواطنين المستضعفين بدلاً من إقتصارها على شركات وبنوك محدودة ومستثمريها... مثلاً شراء الرهونات العقارية التي لا تزيد، مثلاً، عن مليون ريال سعودي !!!,,, والله أعلم