الديون بمبالغ ليست كبيرة، لا يزال أمرها حائرا يحتاج إلى معالجة. والمشكلة أن هذه الديون لا هي كبيرة تستحق أن يتفرغ لمتابعتها أصحابها في الدوائر القضائية والتنفيذية، أو يوكل لها محام ليقاضي مدينيها، ولا هي بمبالغ تهون على أصحابها التضحية بها، خصوصا إذا كان الدائن من ذوي المشاغل وضيق الوقت. لأنه في الغالب يصل إلى قناعة بأنه من غير المجدي متابعتها.. لأن المحامي (إن وكل لها محام)، وتكاليف الوقت والجهد لتحصيلها (إن تابعها بنفسه) لا تساوي قيمتها.
هذا في ظل قيود وشروط.. منها أن الدعوى لا تنعقد إلا بثبوت تبليغ المدعى عليه، ليقدم ما لديه من دفوع. وإجراءات تبليغ واستدعاء وإحضار الأطراف، آخذين في الاعتبار طبيعة المجتمعات بالدول النامية، والصعوبات التي يواجهها أصحاب الحقوق وممثلوهم في مجال تبليغ الخصوم ومعرفة مواقع إقامتهم ومقار عملهم ومتابعة تغيير مقارها. ناهيك بصعوبة التحكم في تجاوب الخصوم، في ظل غياب العقوبات الرادعة للمتهربين من التبليغات، وبالأخص منهم الأغنياء المماطلون، مع أن «مطل الغني ظلم». مما يتأخر معه (وربما يضيع) الحق المالي ومعه المعنوي، إلى درجة أن المدعى عليه (المدين) يتفاوض وكأنه في موقف أقوى من صاحب الحق.
ولمعالجة هذا الأمر هناك خيارات يرى فيها البعض أنها فاعلة ورادعة للمتهربين من مواجهة خصومهم.. لكنها في الحقيقة غير واقعية. ومن ذلك معاقبة المتهربين والمماطلين بتبليغهم عبر وسائل الإعلام أو بقطع الخدمات العامة عن منازلهم، وأعتقد أن عدم واقعيتها يأتي من كون الاستدعاء من خلال وسائل الإعلام فيه تشهير يطال ضرره بقية أفراد الأسرة، ممن ليس لهم ذنب ولا حول ولا قوة. كما أن قطع الخدمات ليس مبررا؛ لأن المماطل يسكن في بيت بقية سكانه (ربما نساء وأطفال ورضع وربما مرضى) ليس لهم ذنب في تهرب هذا الشخص، بما يبرر حرمانهم من الخدمات العامة.. ولذلك فإن هذه الإجراءات ليس فيها عدالة.
وأعتقد أن الحل يمكن من خلال تفعيل دور شركات تحصيل ومتابعة الديون، وتشجيعها ودعمها. وهذا ما هو معمول به في الدول المتقدمة. فما على صاحب الحق إلا أن يتقدم بمستنداته التي تثبت حقه لشركة أو مكتب تحصيل الديون، ويعطي وكالة للتقاضي والتحصيل نيابة عنه. ثم يقوم مكتب التحصيل برفع دعوى ضد المدعى عليه ويتابعه منذ المرحلة الأولية. وذلك بالاتصال المباشر بالعميل ليدفع بالحسنى، أو يرفع الأمر للجهات المختصة... وتتابع المطالبة إلى أن يتم تسلم المبلغ مضافا إليه تكاليف التحصيل. وتكاليف التحصيل هذه تحسب بالساعة ويتحملها الطرف المماطل. لذلك تجد المدعى عليه (بالدول المتقدمة) يحاول جاهدا تقصير إجراءات التقاضي، لأنه يدرك أنه كلما طالت الإجراءات فإنه مديونيته ستكون أكبر. بعكس ما هو معمول به في الدول النامية، فإن الوقت والجهد ليست لهما قيمة. ومن الطبيعي أنه لو أُخذ بهذا النظام لخف عن المحاكم والجهات التنفيذية جهد كبير.. مما تعانيه من العمل في قضايا واضحة وحقوق مستحقة كان يجب أن لا ترفع لنظرها بالمحاكم. ومع هذا تتداول لدى القضاة وفي مكاتب الحقوق والجهات التنفيذية الأخرى، ربما كنوع من المماطلة وكسب الوقت والإضرار بأصحاب الحقوق.
وبهذا الصدد.. أرى أنه لا بأس من أن تقوم هيئة التحقيق والادعاء العام بمطالبة المماطلين المقتدرين على الوفاء بتكاليف التقاضي.
وأخيرا.. فإن مثل هذا التنظيم يعتبر دعما لقطاع المال والأعمال، وحافزا لجذب الاستثمارات المالية (محلية وأجنبية) وعاملا مشجعا على زيادة الائتمان ومعدل دوران رأس المال.
كلام جميل