القصة ليست مجرد 368 ألف درهم غرامة يدفعها مناصفة بنك الاستثمار الإقليمي «أرقام كابيتال» ومؤسسة التدقيق العالمية «إرنست آند يونغ»، إذ إن المبلغ لا يعني شيئاً للطرفين اللذين يتحدثان بلغة المليارات.. إنها السمعة، والرقابة الصارمة، وعدم التهاون في المحاسبة، والمرونة عندما يقتضي الحال.
بدأت القصة في العام 2007 عندما اشترى «أرقام» بعد أشهر من حصوله على ترخيص بالعمل في مركز دبي المالي العالمي 8 قطع فنية، قُيدت في القوائم المالية للبنك كاستثمارات، وزينَ بها مقره الرئيس، وفي 2009 قيمها مركز للمقتنيات الفنية بأعلى من سعر شرائها الأصلي، واعتمد مدقق حساباته «إرنست آند يونغ» هذا التقييم، بعدما أبرم البنك الاستثماري اتفاقاً مع طرف ثالث لبيع القطع الفنية ثم إعادة شرائها مرة أخرى بعد يوم واحد بسعر التقييم نفسه وهو أيضاً سعر البيع والشراء نفسه، ما اعتبرته سلطة دبي للخدمات المالية، الجهة المنوط بها مراقبة أعمال الشركات المرخصة من المركز، مجرد صفقة تبادل محاسبية خالية من الأسس التجارية، إذ لم تكن هناك نية حقيقة للبيع أو لإعادة الشراء.
ورغم أن السلطة أقرت بأن العملية لم تنطو على نية للخداع أو عدم النزاهة، أو مبالغة في تقييم القطع الفنية، إلا أنها تحركت قضائياً ضد البنك ومدقق حساباته، بعدما اعتبرت أن الصفقة خفضت خسائر أرقام السنوية بنسبة 21 بالمئة، ورفعت قيمة أصوله، وأظهرت تحقيقه ربحاً في قائمة التدفقات النقدية.
وحتى يوم الأحد الماضي، ظل هذا الأمر سراً لا يعلمه إلا الأطراف المتداخلة، حتى فاجأت السلطة الأوساط المالية بصدور قرار غير مسبوق في تاريخ محاكم مركز دبي المالي العالمي يتيح إطلاع العامة على الإجراءات القانونية المتخذة ضد البنك ومدقق حساباته، قبل يوم واحد من أول جلسة استئنافية للمحاكمة.
وهنا هب «أرقام كابيتال» و«إرنست آند يونغ» للدفاع عن سمعتهما، لأنها في عالم البيزنس تساوي الكثير، وعلى الفور انعقد اجتماع طال لساعات بحضور كل الأطراف المعنية، وتم التوصل إلى اتفاق ودي يدفع البنك ومدقق حساباته بموجبه 368 ألف درهم غرامة مخفضة، إضافة إلى مصاريف التقاضي وأتعاب عمليات التحري والتحقيق، مقابل وقف المحاكمة، وإقرار السلطة بأنه ليس هنالك أي اتهامات تتعلق باقتراف سلوك مضلل، وأن عملية التقييم كانت صحيحة وأنه لم تتعرض أي جهة للخسارة جرائها.
هكذا إذن تكون الرقابة الصارمة والمحاسبة الدقيقة، والمرونة عندما تقتضي الحال.
إن هذه الواقعة لم تؤثر في سير أعمال البنك ولا شكلت خطراً على أموال العملاء واستثماراتهم، ولكنها مسألة مبدأ، إذ إن الآليات المحاسبية لها معايير دولية معروفة يجب احترامها، حتى ولو اختلفت وجهات النظر بشأن التطبيق، كما أن فحوى الرسالة من وراء تصعيد الأمر كانت قوية، ومفادها بأن هناك عيوناً دقيقة تراقب بلا تهاون ولا تساهل.
والسؤال، لماذا لا تسلك جهات رقابية أخرى في الدولة هذا النهج؟ ولماذا لم يُكشف عن أي عقوبة ضد الشركات المدرجة في الأسواق المالية الثلاثة رغم أن التزام بعضها بمعايير الإفصاح والشفافية محل جدل، بل ووصل الأمر إلى ورود خطأ حسابي بعشرات ملايين الدراهم في ميزانية إحداها، أو وجود اختلافات جوهرية في الأرقام الواردة بالنسخة الإنجليزية من نتائج الأعمال مقارنة بنظيرتها العربية، أو تسريب أحداث جوهرية مؤثرة في سير تعاملات الأسهم إلى بعض المضاربين قبل الإفصاح عنها على شاشات التداول؟
إن مزيداً من الحسم الرقابي من شأنه تعزيز سمعة الأسواق المالية، وزيادة قدرتها على جذب أموال المدخرين القابعة في خزائن البنوك انتظاراً لفرصة.