المستقبل العالمي .. ماذا بعد إرهاصات العقد الماضي؟!

17/10/2023 0
عبد الحميد العمري

يلاحظ المراقب والمتابع للتطورات الاقتصادية والمالية حول العالم بصورة عامة، والتركيز بصفة خاصة على أبرز المؤشرات الأساسية "النمو الاقتصادي، التضخم، البطالة، ديون الحكومات، العجز المالي، ومعدل الفائدة"، أنها تتجه نحو منطقة تقاطع أو تصادم في الأفق المستقبلي، يؤكدها بطء تراجع معدلات النمو مقارنة بتوقعات المستثمرين والأسواق وقبلهما البنوك المركزية، خاصة الأخيرة التي اجتمعت أغلب تقديراتها حول ما سمته بالهبوط السلس للاقتصاد، متجاوزا بغموضه حدود تفسير البعض بتمتع النمو الاقتصادي بمرونة أكبر من السابق، ويزيد المسألة تعقيدا أكبر التماسك الكبير الذي أظهرته أسواق العمل، عبر زيادة الوظائف بأعلى من التوقعات من جانب، واستقرار معدل البطالة عند أدنى مستوياته التاريخية منذ نهاية الستينيات الميلادية "الولايات المتحدة" من جانب آخر، وفي الوقت الذي اتخذت فيه البنوك المركزية أوسع وأسرع إجراءات تاريخية تتعلق برفع معدل الفائدة وتشديد السياسات النقدية، بهدف كبح جماح التضخم الأكبر خلال أكثر من أربعة عقود مضت، فقد أظهر التضخم مناعة أكبر مما توقعته البنوك المركزية والأسواق، واتخذ مسارا تصاعديا في الولايات المتحدة منذ يوليو الماضي، ليرتفع من 3 في المائة بنهاية يونيو إلى 3.7 في المائة خلال شهرين متتاليين "أغسطس، وسبتمبر". وظل التضخم الذي يعبر عن مؤشر أسعار المستهلك الأساس عند 4.1 في المائة، أي ضعف المستوى المستهدف من قبل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي البالغ 2 في المائة.

بالتزامن مع التطورات الاقتصادية والمالية أعلاه، تفاقم العجز في مالية الحكومات، وتسارعت وتيرة ارتفاع الديون الحكومية حول العالم، تحديدا في الولايات المتحدة والصين كأكبر اقتصادين في العالم، ووصلت إلى مستويات تاريخية غير مسبوقة، وتسارعت وتيرة الزيادة في الدين الأمريكي إلى أن أصبح ينمو خلال الشهر الأخير بنحو تريليون دولار بمعدل شهري، ما يعني أنه مرشح للوصول إلى أعلى من 45 تريليون دولار بعد عام مقبل من تاريخه "يبلغ الآن 33.2 تريليون دولار"، ولا تبتعد أغلب الحكومات حول العالم عن الحالة اللافتة لتنامي الدين الأمريكي. على جانب الأسواق المالية، على الرغم من مكابدتها الخسائر خلال شهر مضى، إلا أن أغلبها ما زال يحتفظ بمعدلات نمو إيجابية منذ مطلع العام الجاري، وما إن تتراجع بالتزامن مع عديد من الأخبار والمؤشرات السلبية بصورة متقطعة، إلا أنها سرعان ما تستعيد نشاطها ومسارها الصاعد، وفي الجانب البعيد أو غير المراقب من كثب من قبل الأغلبية، تواصل معدلات العوائد على السندات بمختلف آجالها الصعود إلى أعلى مستوياتها منذ 2007، وقس على ذلك الأداء المتذبذب في بقية أسواق السلع والطاقة والمعادن.

وقبل الذهاب إلى المشهد العام الأوسع نطاقا لما يشهده العالم المعاصر، الذي يأخذ في الحسبان محاور أوسع وأكبر حضارية وعلمية لا يمكن تجاهلها ونحن نتحدث عن المستقبل، والارتقاء إلى أعلى من مجرد النظر إلى الواقع العالمي من خلال الإطار الاقتصادي والمالي فقط رغم أهميتهما وتأثيرهما الكبيرين، لا بد من الإشارة أخيرا وليس آخرا إلى أن السمة الغالبة التي سيطرت على الاقتصادات والأسواق والمؤشرات خلال الفترة الراهنة، أن ما كان يحدث خلال عقود من الزمن، أصبح في الإمكان مشاهدة تقلباته الحادة خلال أقل من عام واحد! والسمة الأخرى أن التأثيرات المتبادلة بين المؤشرات "الفائدة، البطالة، والتضخم" لم تعد كما كانت سابقا قبل أربعة عقود من الزمن، في تأكيد على أن عوامل أخرى رئيسة بدرجة تأثير الفائدة نفسها قد أصبحت حاضرة، ويتجاوز تفسيرها الإطار الاقتصادي والمالي، وهي إما خارج السيطرة فعليا كونها أكبر من الاقتصاد والأسواق، أو أنها لم تواجه التدخل الفاعل والكفء، كالسيولة الفائضة في الأسواق بسبب التيسير الكمي الهائل الذي تم ضخه خلال أكثر العقد الزمني الأخير، الذي بدأ بالأزمة المالية العالمية 2008 وانتهى بالجائحة العالمية كوفيد - 19.

بناء على ما تقدم، وتأسيسا لأهمية اعتماد إطار تتجاوز حدوده عالم الاقتصاد والمال، ذلك الإطار الأوسع الذي يمكن له أن يواجه مشهدا عالميا أكثر تعقيدا، وأكبر بكل تأكيد من الإطار الاقتصادي محدود النطاق، في ظل الاتساع اللامحدود من المتغيرات والتطورات العالمية اليوم. فبالنظر إلى الاتساع المستمر لحالة الاضطرابات والصراعات الجيوسياسية في عديد من أنحاء العالم، التي زادت أخيرا بارتفاع حدتها في منطقة الشرق الأوسط، ارتسمت معه صورة أكبر وأوسع نطاقا، طغى ويطغى على أغلبها، إن لم يكن كلها، طبقات متراكمة من الضبابية فترة بعد فترة، تكاثرت مع كل مرحلة منها تساؤلات أكبر عنوانها الرئيس "وماذا بعد؟!"، وإلى أين يتجه العالم اليوم على مستوى محاوره الرئيسة كافة؟ وهل ما يحدث من تطورات وتقلبات متسارعة الخطى في جانب منها، وفي أخرى متضاربة القوى والتأثير، ليس إلا جزءا من تفكك العولمة التي نادى بها كثير من المفكرين تمهيدا لتشكل عولمات جزئية، بدأت تتشكل تحت ضغوط الصراعات الاقتصادية والتجارية والعسكرية من خلال التكتلات الاقتصادية الأحدث عمرا، مقارنة بالعمر الأطول للعولمة التي تشكلت قبل أكثر من ثلاثة عقود زمنية "بريكس كأكبر مثال"؟

إن من يراقب التطورات والأحداث المتتالية التي شهدها العالم بشكل عام، والاقتصاد العالمي كأحد أهم مجالاتها خلال العقد الزمني الأخير، بكل ما شهده من تطورات وأحداث تاريخية مفصلية وغير مسبوقة، وما أفضت إليه تأثيراتها المتتالية فيما بعدها من تطورات، سيتأكد لديه أن العقد المقبل من عمر البشرية والعالم، سيكون على مواعيد تاريخية وتطورات غير مسبوقة، يزيد من عمقها وتأثيراتها في حياة العالم المعاصر في المستقبل القريب قبل أن يكون بعيدا، ما يشهده العالم من تطورات عملاقة ومتسارعة في مجال الذكاء الاصطناعي والحروب السيبرانية، التي بدأت تضع بصماتها بسرعة كبيرة جدا، وأصبحت تتدخل في تحديد أنماط الحياة والإنتاج واتخاذ القرار على المستويات كافة، بصورة باتت في حكم المؤكد أن العالم بأسره سيتجه -في ظل العوامل والمتغيرات الراهنة- وتحت تأثيراتها الواسعة والعميقة جدا، نحو مستقبل منفصل بدرجة كبيرة عن الماضي أولا، وثانيا نحو تشكل عوالم متفاوتة ومتمايزة بدرجة كبيرة على مستويات الحياة والحضارة والمدنية كافة. وقياسا على التاريخ البشري في هذا السياق، عادة ما يرافق مثل هذه الانتقالات التاريخية المفصلية، والتحولات العالمية العملاقة قدر كبير من الصراعات المؤلمة إلى حد بعيد، إلا إذا كان للبشرية المعاصرة الأكثر ميلا إلى السلام والاستقرار رأي آخر، يختلف في سماته عما كانت عليه من سمات أكثر تصادمية خلال القرنين الماضيين.

 

 

 

نقلا عن الاقتصادية