كشف محافظ بنك الكويت المركزي أن المرحلة المقبلة تقتضي استخدام نموذج رقابي جديد للقطاع المصرفي المحلي. ويبدو أن الشيخ سالم عبد العزيز الصباح وفريق عمله بدأوا بالفعل في وضع هذا النموذج، وبالتحديد منذ بداية الأزمة المالية المحلية في أكتوبر 2008. اذ أصدر «المركزي» منذ ذلك الحين سلسلة تعليمات للوحدات المصرفية الخاضعة لرقابته، حتى كاد عدد التعاميم المصوغة في هذا الاطار يتخطى الـ30، بالاضافة الى الكتب والخطابات الفردية الموجهة الى كل بنك على حدة.
فبين أكتوبر 2008 ونوفمبر 2009، سنة ونيف مرت، عاشها القطاع المصرفي المحلي بمرارتها ووعورة ظروفها. هذه الظروف التي دفعت بـ«المركزي» الى السعي لكشف جميع الأوراق المستورة خوفا من المجهول. فأزمة بنك الخليج أتت من حيث لا يتوقع أحد، وكادت تودي بحياة ثاني أكبر بنك تقليدي في البلاد. لذا شن «المركزي» منذ حينها حربا هجومية على مختلف الجبهات، بدل الانتظار والعمل على تدعيم الدفاعات فقط.
وبرز دوره كـ «حاكم» فعلي للقطاع، لدرجة أن أحد المصرفيين قال: «لا يمكن اليوم اتخاذ أي قرار دون الرجوع اليه». فهو بات يدقق بتفاصيل التفاصيل في دفاتر المصارف، ويسأل عن كل شاردة وواردة في أعمالها، ويتدخل بالسراء والضراء. ومن خلال هذا العمل اللصيق مع البنوك، يحاول «المركزي» رسم خريطة طريق بهدف وضع نموذج رقابي يتماشى ومرحلة ما بعد الأزمة. وقد رصدت «القبس» التعاميم والتعليمات التي أصدرها آخر 12 شهرا، لعلها تساعد على استنتاج الخطوط العريضة لهذه الخريطة:
1-معلومات ما بعدها معلومات: أكثر من 60% من تعاميم الفترة القليلة الماضية تتعلق بمعلومات يطلبها «المركزي» من الوحدات المصرفية. وهذه المعلومات ستساعده بالطبع على تشريح البنوك بهدف بناء قطاع لا مفاجآت فيه. لكن أوساطا مصرفية تستغرب هذا الكم من المعلومات المطلوبة في مدة قصيرة، خصوصا أن بعضها بديهي كان من المفترض على «المركزي» معرفته منذ زمن. وتتلخض جملة هذه المعلومات بالتالي:
- طلب أكثر من مرة حصر القروض الاستهلاكية والمقسطة واحصاء المعسرين الصادرة بحقهم أحكام قضائية.
- ورقة تتضمن عناصر خلل علاقة الحكومة بالقطاع الخاص مثل تراجع النمو في الانفاق العام وما نجم من آثار لصدور القانونين 8 و9 العقاريين لسنة 2008، بالاضافة الى قيام الحكومة بطرح مشاريع ثم الغائها. - تقييم مخاطر المحافظ المرتبطة بالسوق يومياً وأسبوعياً.
- تصنيف مفصل لجميع الانكشافات الائتمانية. - ان تتضمن الميزانيات بيانات تتعلق بتفاصيل المستجدات المتعلقة بمحافظ الائتمان وقيمة الضمانات أو الرهونات مقارنة بقيمتها في الفترة المقابلة. - مدى التزام العملاء المدينين محلياً أو اقليمياً للوقوف على مدى انتظامهم.
- تزويد «المركزي» بالايرادات والمصروفات الشهرية لكل بنك. - موافاته بمعلومات وتفاصيل مديونيات العملاء التي تبدأ من نصف مليون دينار.
- تقرير يومي بشأن الاسهم المرهونة وتسييلها. - تشخيص دقيق وتفصيلي لكامل أوضاع البنوك المالية وكيفية تأثرها في الأزمة وتزويده بالخطط المعدة لمواجهة أي تحديات.
- طلب بيانات دورية تتعلق بأرصدة التسهيلات التجارية وعمليات التمويل شاملة جميع الأفرع الأجنبية والشركات التابعة، مع ايضاح الضمانات المقدمة مقابل كل من التسهيلات، على أن يتم استبعاد الضمانات غير العينية، والضمانات غير النقدية، وحوالات الحق، والأوراق التجارية.
- افصاحات شاملة عن تعاملات المشتقات ضمن بيانات 2009.
- طلب من البنوك الاسلامية تفاصيل التركزات الائتمانية للعملاء ومدى التزامها بنسبها. بعض هذه المعلومات كان يسأل عنها «المركزي» لمرة واحدة والبعض الآخر كان يطلبها بشكل دوري. لذا يمكن ملاحظة أن بعضها قد يكون مكررا مثل تفاصيل التسهيلات المقدمة مقابل ضمانات. والجدير ذكره أيضا أنه بدءا من نتائج النصف الأول 2009، بات «المركزي» يتبع أسلوبا جديدا لاعتماد بيانات البنوك المالية نصف السنوية مما يقتضي لقاء قيادات كل بنك على حدة لمناقشة النتائج ووضع الملاحظات.
2-بناء المخصصات: لم يشجع «المركزي» لسنوات البنوك على بناء احتياطيات كم يفعل اليوم. اذ دفعته الأزمة لطلب بناء مخصصات للديون المتعثرة بشكل ربع سنوي بدلاً من الانتظار حتى نهاية العام. وأصبح متشددا في اعتبار أي الديون متعثرة لدرجة أنه أمر بتجنيب مخصصات لأي قرض يتخلف صاحبه عن السداد مرة واحدة دون الانتظار لفترة الـ90 يوماً المعتادة.
كما سمح للمصارف باستخدام المخصصات العامة القائمة لديها لمحفظة التسهيلات الائتمانية في تدعيم المخصصات المحددة المطلوبة، بعد الحصول على موافقته المسبقة وفق شروط وضوابط منها عدم استخدام المخصص العام لتوزيعات الارباح والالتزام باعادة تكوين المخصصات العامة وفقا للنسب المقررة في التعليمات (1% للتسهيلات النقدية و0.5% للتسهيلات غير النقدية). وقد أكلت هذه المخصصات أغلب أرباح البنوك وكبدت البعض خسائر خلال الأشهر الاثني عشر الماضية.
3-متابعة القروض والرهونات: بالاضافة الى المعلومات الدورية التي بات يطلبها عن تفاصيل تطور المحافظ الائتمانية لدى البنوك، أصدر «المركزي» في 8 أكتوبر 2008 عددا من القرارات الائتمانية أبرزها رفع الحد الأقصى المقرر لنسبة التسهيلات الى الودائع من 80% الى 85% ورفع نسب النمو المقررة في المحافظ. وفي 3 ديسمبر 2008، صدر تعميم يطلب فيه من البنوك حث العملاء على تقديم ضمانات معززة لقروضهم بشكل «هادئ وسريع».
كما منع في فترة لاحقة احتساب حوالات الحق ضمن الضمانات القائمة. وفي 28 ديسمبر 2008، أصدر قرارا حدد فيه وزن المخاطر للقروض التي تمنحها البنوك لتمويل شراء كل من العقارات الاستثمارية والتجارية بنسبة 150%. كما أصدر «المركزي» في 15 مارس 2009 تعميما منع فيه البنوك من منح أي قروض أو تمويل لعملائها من المؤسسات بغرض استخدامه في نشاطات غير مصرح بها بموجب عقود تأسيس هذه الشركات، ومراعاة ان تكون العملة التي يتم بها منح التسهيلات تتناسب مع طبيعة النشاط الذي يتم تمويله وتدفقاته النقدية التي ستوجه لتسديد الأقساط. وعلى البنوك تحديد هذا الغرض في عقود التسهيلات والتأكد من أن التمويل يتم استخدامه ضمن اطاره.
واللافت أيضا في اطار خريطة الائتمان الجديدة هو السماح للبنوك بمنح قروض طويلة الأجل للقطاعات المنتجة ضمن قانون الاستقرار المالي. كما يتابع «المركزي» اليوم التركزات الائتمانية لكل بنك بعد أن طلب بضرورة الحصول على موافقته على أي عملية تمويل تزيد في تركزها عن 10% من قاعدة رأس المال. أما فيما يخص الرهونات مقابل التمويلات، فكان «المركزي» اتخذ في 17 أكتوبر 2008 خطوة لا مثيل لها في العالم، باعتراف المحافظ نفسه، تمنع البنوك من بيع الاسهم المرهونة لديها مقابل القروض والتسهيلات المقدمة للعملاء، بما في ذلك شركات الاستثمار. وهدد حينها بايقاف عمليات الايداع من قبل البنك المركزي والجهات الحكومية الاخرى مع البنك الذي يقوم ببيع أي أسهم مرتهنة لديه. لكن ما لبث أن خفف شروط هذه الخطوة فيما بعد، عندما جعل قرار التسييل بيد البنوك بعد استنفاذ جميع وسائل المفاوضات مع العميل.
4-تحسين ادارة السيولة: خلال الأزمة، بات «المركزي» يطمئن يوميا على أوضاع السيولة في المصارف المحلية. وقد سعى الى تحسين آليات ادارة السيولة في القطاع عبر وسائل مختلفة مثل اضافة فترتي استحقاق لتعاملاته مع البنوك في اطار عمليات اعادة الشراء (الريبو) لسندات الخزينة، وفترتا الاستحقاق هما لليلة واحدة وشهر بالاضافة الى ما هو قائم في السابق أي استحقاق اسبوع.
وهذا الاجراء يمنح البنوك فرصا اكبر لادارة اصولها وخصومها وفق آجال استحقاقها المختلفة. كما طرح «المركزي» سندات بمئات ملايين الدنانير بهدف سحب السيولة من المصارف المتخمة بسبب العزوف عن التمويل.
5-معيار كفاية رأس المال: في 8 أكتوبر 2008 ، سمح «المركزي» باعتبار العقارات أحد الضمانات في احتساب معيار كفاية رأس المال. لكنه رفض في 24 مايو 2009 طلبا من البنوك يسمح باعتبار الأرباح المرحلية من ضمن مكونات قاعدة رأس المال، لأن هذه الارباح عرضة للتغير خلال العام، وهي خاضعة للتوزيعات في نهاية السنة المالية، حسب رأيه.
وفي وقت لاحق، وافق على تطبيق المعيار المعدل لكفاية رأس المال (بازل 2) على البنوك الاسلامية المحلية اعتبارا من 30 يونيو 2009. وكان «المركزي» أدخل في 14 يونيو الماضي تعديلا على تعليمات معيار كفاية رأس المال يتعلق بالركن الثاني من المعيار الخاص بعملية المراجعة الرقابية والذي يتضمن التأكيد على اهمية المراجعة الرقابية واهمية قيام البنوك بعملية التقييم الداخلي لكفاية رأس المال.
6-اختبارات الضغط: فرضت الأزمة عددا من آليات العمل الجديدة، ومنها اجراء اختبارات الضغط التي لم يعتد عليها القطاع المصرفي المحلي. فمنذ مارس الماضي، طلب «المركزي» من البنوك اجراء اختبارات الضغط (Stress Testing) لتقييم قدرتها على مواجهة الانكشافات في ظل أوضاع وظروف صعبة وتحليل السيناريوهات وتأثيرها السلبي في أداء البنك، وخصوصا ناحية الربحية ومدى كفاية رأس المال.
وقد أجرت البنوك 3 اختبارات حتى الساعة، اثنين منها تركا لها حرية اختيار السيناريوهات من دون تدخل «المركزي»، لكن عدم رضا هذا الأخير على النتائج دفعه لفرض آلية محددة في ثالث اختبار. وقد اضطر لتعيين مؤسسة مالية أجنبية لمساعدته في هذا الصدد.
الى ذلك، قرر «حاكم القطاع» اجراء اختبارات دورية طيلة الفترة المقبلة للوقوف على حقيقة وضع المصارف وقدرتها على تحمل أي صدمات.
7-الاهتمام بالحوكمة وادارات المخاطر: في 21 مايو 2009، لاحظ «المركزي» في تعميم وزعه على الوحدات المصرفية ضعفا حادا وواضحا في أداء ادارات المخاطر المصرفية، وذلك بعد اجراء اختبارات الضغط الأولى.
وكانت هذه الادارات أنشأت في البنوك عام 2003 حيث تعليمات من «المركزي» نفسه. لذا حث هذا الأخير البنوك على تطوير ادارات المخاطر لديها، كما سعى لتفعيل معايير الحوكمة أيضا.
فكلف أخيرا البنك الدولي اعداد تقرير حول مدى التزام البنوك الكويتية بمعايير الحوكمة ونظمها. وسيزور وفد من البنك الدولي الوحدات المصرفية المحلية ابتداء من الشهر المقبل بهدف صياغة التقرير المذكور، والذي يعتبر خطوة نحو تعزيز الحوكمة في القطاع المصرفي التي تحدد دور كل من مجالس الادارات والمساهمين والموظفين.
8-مراقبة الاستثمارات والاستعانة بمدققين خارجيين: يسعى «المركزي» للاحاطة بأعمال المصارف من جميع جوانبها. لذا طلب في 9 فبراير 2009 معلومات مفصلة عن الاستثمارات الخارجية في محفظة الاوراق المالية لعامي 2007 و2008.
وشدد على ضرورة اخطاره عن ارصدة الاستثمارات الخارجية على أن يكون ذلك مصنفاً بحسب التوزيع الجغرافي، والادوات والعملات الاجنبية التي تجري بها هذه الاستثمارات، وكشف العملاء المحليين الذين تقوم المؤسسات بالاستثمار نيابة عنهم.
وفي 2 مارس 2009، أبلغ «المركزي» البنوك بتكليف جهة خارجية متخصصة في فحص وتقييم أنشطة ونظم مصرفية ومالية معينة، للانضمام الى فرق التفتيش في الحالات التي يرى فيها أن طبيعة المهمة تتطلب الاستعانة بمثل تلك الجهات. وشدد في تعميمه على أن هذه الجهات الخارجية ستلتزم بالمحافظة على سرية جميع البيانات والمستندات التي ستطلع عليها.
9-أمور تنظيمية: الى جانب الخطوط الرقابية التي رسمها أخيرا، أصدر «المركزي» سلسلة تعليمات تتعلق بتنظيم البنوك ليكتمل مشهد بناء القطاع من جديد. ومن هذه الأمور التنظيمية:
- تغيير مواعيد عمل فروع البنوك ليصبح الدوام ابتداء من سبتمبر الماضي من الساعة 8.30 صباحاً حتى الساعة 3.30 عصراً. ويسمح لكل بنك بفتح فرعين في المناطق التجارية لكل محافظة للعمل في الفترة المسائية.
- في 30 يونيو 2009، وجه ملاحظة على ثغرات تقنية في بعض جوانب نظم الرقابة الداخلية لدى بعض البنوك، مثل الدخول على بعض المواقع الالكترونية ونظم المعلومات الخاصة بالبطاقات المصرفية.
- رفع نسبة العمالة الوطنية في البنوك الى 60 % من الاجمالي ابتداء من نهاية يونيو الماضي.
- طلب صحيفة الحالة الجنائية للقيادات المصرفية. - استحداث برنامج لتوظيف الخريجين الكويتيين وتدريبهم بمساعدة معهد الدراسات المصرفية.
10- تعليمات محددة: صحيح أن الأزمة فرضت تغيير النموذج الرقابي، لكنها فرضت أيضا بعض التعليمات الآنية والموضوعة مؤقتا لمعالجة أوضاع خاصة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أصدر «المركزي» سلسلة تعاميم تتعلق بقانون الاستقرار المالي وكيفية تطبيقه على أرض الواقع.
كما قدم في فترة ما حوافر لنجدة شركات الاستثمار عبر برامج التمويل مثل تخفيض نسبة الزام البنوك المحلية بالاحتفاظ بنسبة 20% من ودائع العملاء بالدينار الكويتي لتصبح 18%، وما الى ذلك.
11- التشجيع على الدمج وزيادات رؤوس الأموال: منذ نوفمبر 2008 ومحافظ «المركزي» يشير الى أهمية تفكير البنوك الوطنية بالاندماج «وذلك كأحد الخيارات المناسبة لاقامة كيانات مصرفية ذات مراكز مالية قوية قادرة على المنافسة وتحمل مخاطر العمل المصرفي»، على حتى تعبير الشيخ سالم.
وقد شهد القطاع المصرفي المحلي أول عملية استحواذ نوعية في تاريخه وهو شراء بنك الكويت الوطني لحصة 40% من بنك بوبيان الاسلامي. كما يعمل «المركزي» مع البنوك اليوم على تعزيز رسملة الوحدات عبر زيادات رؤوس الأموال.
12- الإيداعات الحكومية وضمان الودائع بطلب من «المركزي»: ضمنت الدولة ودائع المصارف في الكويت بموجب قانون صدر من مجلس الأمة في 29 أكتوبر 2008. الى ذلك، شجع «المركزي» المؤسسات الحكومية على ايداع مبالغ في البنوك المحلية لدعم ميزانياتها، فارتفعت الودائع الحكومية من 2.6 مليار دينار في أكتوبر 2008 الى 4 مليارات في أكتوبر الماضي.