لعبة عض الأصابع أو لعبة الدفع المتبادل على حافة الهاوية ما زالت مستمرة بين الحكومة اليونانية وممثلي "الترويكا" أي ممثلي الاتحاد الأوروبي، والبنك المركزي الأوروبي، وصندوق النقد الدولي ، والجديد في هذه الجولة من المفاوضات هو الشروط القاسية الجديدة التي تفرضها "الترويكا" على اليونانيين والمتمثلة ببرنامج تقشف مؤلم جدا يقوم على خفض رواتب وأجور موظفين يعملون رسميا في الحكومة وضمن قطاعات حيوية مثل الشرطة والقضاء والإطفاء والجامعات وهو أمر استفزازي قد يدفع الشعب اليوناني إلى اعتباره مساس بالسيادة الوطنية وبالتالي قد يكون شرارة لانطلاق احتجاجات وأعمال شغب عارمة يكون هدفها إسقاط الحكومة الائتلافية الحالية.
إن واقع منطقة اليورو مثير للشفقة ، فأزمة الديون السيادية مرغت الكرامة الأوروبية بالوحل ، وأصبح العالم كله يتدخل بالشأن الأوروبي ، صحيح أن هذا التدخل " ناعم " لكنه في النهاية تدخل ، فمنذ أكثر من سنتين ونحن نسمع دولا كبرى مثل أمريكا والصين وروسيا تطالب الأوروبيين بالبحث عن حل لأزمتهم ، يبعد الاقتصاد العالمي عن الهلاك ، ولا يحدث مؤتمر سياسي أو اقتصادي حول العالم إلا ويتضمن في بيانه الختامي اتهاما مبطنا للأوروبيين يحملهم فيه مسؤولية ما قد يصيب اقتصاد العالم بسبب تقصيرهم في حل أزمة ديونهم.
مما لا شك فيه أن العالم كله في مأزق وليس أوروبا فحسب ، وهذا المأزق معقد جدا ويتكون من ثلاث مستويات :
المستوى الأول: هو المستوى اليوناني حيث الدولة شبه مفلسة وتنتظر ورود شريحة بقيمة 31.5 مليار يورو من القرض الذي وعدهم به الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي في مارس الماضي والبالغ 130 مليار يورو ، ويبدو أن الترويكا ربطت – كشرط مسبق - صرف هذه الشريحة بموافقة الحكومة اليونانية على شروطها المتصلة ببرامج تقشف توفر نحو 11.5 مليار يورو متفق عليها سلفا ، وبرنامج الاقتطاع من رواتب الموظفين الحكوميين والذي يؤمن وفرا بقيمة تتراوح بين 2.5 و3 مليار يورو ، فإن وافقت الحكومة على هذه الشروط وأثبت حسن نيتها يمكن للترويكا تقديم تقرير إيجابي وبناء عليه يتم صرف شريحة 31.5 مليار يورو ، وإلا فإن أي تقرير سلبي للترويكا يعني أن اليونان ستصبح عاجزة عن تسديد التزاماتها أي مفلسة تماما وجاهزة للخروج من اليورو . وأعتقد أن الشعب لم يعد يحتمل الكثير من الضغوط وأن أي ضغوط جديدة قد تكون سببا في تفجير الائتلاف الحكومي الراهن من الداخل .
المستوى الثاني : هو المستوى الأوروبي ، فإن كانت اليونان في مأزق فإن منطقة اليورو ومن خلفها أوروبا كلها في أزمة ، فالأوروبيون عاجزون عن "إبداع حل " تقبل به جميع الدول ، وله نتائج واضحة المعالم ، صحيح أن صندوق الإنقاذ الأوروبي لعب دورا إيجابيا لكنه بقي دون الطموح ، وصحيح أن ألمانيا قادرة على لعب دور مهم في جمع الأوربيين حول حل تدفع هي ثمنه لكنها في الوقت نفسه تخشى أن يكون هذا الحل سبب غرقها خلف الآخرين ، ولذلك هي كانت دائما ضد إصدار سندات أوروبية ، وضد شراء السندات الحكومية التي قبلها وأقرها البنك المركزي الأوروبي قبل أيام ، وهي أي ألمانيا إن تخشى على نفسها فلأنها تخشى على أوروبا كلها ، والمستشارة أنجيلا مركل أقرت في أكثر من مناسبة بخوفها من خروج اليونان من منطقة اليورو وهي تؤمن أن أي خروج لليونان من هذا النظام يعني حدوث أزمة مالية عالمية جديدة و مدوية ومشابه لما حدث عند انهيار بنك ليمان براذرز .
المستوى الثالث : هو المستوى العالمي ، فالعالم لم يتعاف بعد من الأزمة المالية العالمية التي أُسس لها بالرهون العقارية الأمريكية ،وجرى تفجيرها بانهيار بنك ليمان براذرز ، كما أن العالم ما زال متشائما من تداعيات الدين السيادي الأمريكي والدين السيادي لإمارة دبي ، وبالتالي فإن العالم كله قلق مما يجري في أوروبا واليونان تحديدا ، بل ويخشى من أن تتحول اليونان إلى "ثقف أسود" يبتلع كل أموال الإنقاذ التي تضخ فيه . ولعل هذا ما يجعل دول لديها فائض مالي مثل الصين والسعودية وقطر والإمارات والكويت وروسيا من الاندفاع نحو أوروبا والتزام سياسة الترقب والحذر بانتظار ما ستؤول إليه الأمور في اليونان .
إن النظر إلى أزمة الديون الأوروبية عبر المستويات الثلاثة السابق ذكرها يجعلنا نرى مستقبل النظام المالي الأوروبي مصاب بمرض يصعب الشفاء منه ، ويجعلنا نرى الأسواق المالية هشة وتسير تارة ببرامج الإنعاش والتحفيز وتارة أخرى على أمل حل يبدو أن الطريق إليه ما زالت طويلة ، ونرى أن تقرير الترويكا سيكون مصيريا لليونان أولا ولأوربا ثانيا فإن جاء سلبيا – ونأمل أن لا يأتي سلبيا - سيكون بمثابة المطرقة التي تضرب أول حجر في سلسلة أحجار الدومينو ومن بعدها سيأتي شر مستطير لا بد منه سيضع أوروبا في مهب الريح و سيدمر الكثير .. الكثير.. من أحلام اليونانيين والأوروبيين .