"بلادنا تسير نائمة نحو جدار الديون في ظل يقظة عالمية من مستثمري السندات بشأن السياسات المالية" ... هكذا وصف فرانسوا فيليروا دي غالو، حاكم بنك فرنسا المركزي قبل ثلاثة أشهر الأزمة الاقتصادية المحدقة ببلاده التي تجمع بين ديون عامة و عجز مالي مرتفعين مع تباطؤ ملحوظ في النمو، و ذلك في ظل اضطراب سيأسى أبرز ملامحه برلمان مفتت بلا تحالف أغلبية و حكومات اقلية متعاقبة لا تستطيع تمرير ميزانية التشقق المقترحة، عند غيوم ذلك المشهد يقف الآن النموذج الاجتماعي الفرنسي القائم على دولة الرفاه أمام تحديات كبيرة متراكمة لم يشهدها منذ تأسيسه عقب الحرب العالمية الثانية، فالدولة ذات الانفاق الحكومي الأعلى عالميا كنسبة من الناتج المحلي " 5%" حسب صندوق النقد الدولي لم تعد قادرة على تحمل رومانسية و أعباء العقد الاجتماعي السخى جدا بينها و بين مواطنيها.
الديون ترسم خريطة الأزمة
لا يمكن تناول فرنسا بعيدا عن نافذة منطقة اليورو التي تشكل القوة الثالثة في الاقتصاد العالمي بعد الولايات المتحدة و الصين، تعمل تلك القوة كاتحاد نقدى متكامل من عشرين دولة بعملة موحدة تسيطر على خمس الاحتياطيات العالمية و بنك مركزي مشترك ECB يقر سياسة نقدية موحدة لدول اليورو، و لكن بسياسات مالية مختلفة و مستقلة لكل دولة ... و هنا أصل المشكلة.
إذ أن سندات كل دولة في منطقة اليورو ترسم بوضوح تباين واسع في السياسات المالية لكل منها، حيث الشمال المنضبط و المقتصد ماليا بديون و عجز منخفضين "المانيا، هولندا، النمسا، فنلندا" ... و الجنوب المثقل و المقيد بديونه القياسية و أزماته المستمرة في "إيطاليا، اليونان، البرتغال" ... و الوسط الرمادي التائه بين نفقات اجتماعية توسعية و ديون مرتفعة و عجز مالي يتسع في "فرنسا، اسبانيا، بلجيكا".
الخطر هنا أن فرنسا مازالت في الوسط و لكنها تميل إلى الجنوب، فالجميع يتخوف من تكرار التجربة الإيطالية في فرنسا التي تعد ثاني أكبر مصدرة للديون في منطقة اليورو بعد إيطاليا، و ثالث أكبر دين عام كنسبة للناتج المحلي بنحو 114% بعد اليونان 160% و إيطاليا 138%، و صاحبة ثالث أعلى عجز مالي بنحو 5.5% مبتعدة عن السقف الأوروبي عند 3%.
ليأتي سبتمبر الجاري مترجما أشياء هامة على ظلال ما سبق حيث سجلت عوائد السندات لأجل عشر سنوات أكبر ارتفاع لها في نسختها الفرنسية بنحو 0.9% منذ يناير 2024 حتى سبتمبر 2025 بالمقارنة مع نظيرتها في ألمانيا 0.6% و اليونان 0.3% فقط و إيطاليا حيث المفاجأة -0.2%، هذا بخلاف خفض وكالة "فيتش" الأمريكية لتصنيف فرنسا إلى (A+) مع نظرة مستقبلية مستقرة رغم التشكيك في القدرة على كبح لجام الديون و العجز و استعادة نشاط النمو.
سيناريوهات ماكرون للتعامل مع الأزمة
باقي من الزمن رسميا 20 شهرا على نهاية فترة حكم الرئيس ايمانويل ماكرون، فهل يستطيع الرجل انقاذ اقتصاد بلاده و تجاوز الأزمة السياسية الحالية و الإفلات من احتمال الانتخابات المبكرة و اكمال مدته كما أكد هو إلى مايو 2027 ؟! ... الإجابات هنا مفتوحة على عدة سيناريوهات متدرجة المخاطر في ظل حراك شعبي متواصل.
أولا، سيناريو الصدمة المتكررة بحل الجمعية الوطنية "البرلمان" وفقا للمادة 12 من الدستور، حيث فعلها ماكرون في يونيو 2024 و لم تسفر عن نتائج إيجابية حقيقية تقوى موقفه بأغلبية موالية، و يستطيع فعلها ثانية الآن بعد مرور أكثر من عام على الحل السابق.
و لكن تلك الخطوة سوف تأتى بالأسوأ، فكل ما سبق سوف يتفاقم نظرا لارتفاع تكاليف المخاطر حيث المزيد من الديون و العجز و تباطؤ النمو، و عوائد أعلى للسندات الفرنسية (OATs) و اتساع الفارق مع نظيرتها الألمانية، و ضغط على اليورو مقابل الدولار نتيجة لتراجع الثقة و الاستقرار في ثاني أكبر اقتصاد بمنطقة اليورو.
ثانيا، سيناريو التهدئة و التثبيت، و ذلك عبر التظاهر رسميا باحترام و استيعاب طلبات الشارع في ظل محاولات لتشكيل حكومة و لو حتى أقلية لتمرير ميزانية 2026 أمام البرلمان أما بتحالفات حزبية تدعم ذلك أو بإجراءات استثنائية بقرارات دستورية و إدارية لتمريرها.
تتضمن خطة عمل تلك الميزانية مزيجا مائلا للتقشف يوازن بين مثلث الحماية الاجتماعية و خفض الإنفاق و زيادة الإيرادات، بغية تحريك الاقتصاد في اتجاه عرضي يتجه لاستقرار الدين العام و السيطرة على العجز المالي.
ثالثا، سيناريو توافق الكتل الوازنة، حيث الطريق الى تأليف أغلبية مطلقة 289 من أصل 577 عضوا في الجمعية الوطنية بتحالف قوى اليسار المعتدل مع الوسط الذى يمثله ماكرون و بعض الأعضاء المستقلين لتشكيل حكومة وسط موسعة تعمل حسب خطة توافقية معتدلة يقتسمها الجميع.
سيناريو ماكرون و شركاه "إن تحقق" سوف تنظر له المؤسسات الأوروبية و الأسواق المالية بعيون القبول و الارتياح لما يعنيه من استقرار الأوضاع السياسية و الاقتصادية بضبط مالي نسبى في ظل تقشف خفيف، يحسن مؤقتا من ثقة المستثمرين و ينعكس إيجاباً على التصنيف الائتماني و سلبا على عوائد السندات.
ختاما ،،، هناك من يرى على الضفة الغربية من الأطلنطي بأن إضعاف منطقة اليورو يصب في صالح الدولار الأمريكي، و ها هو واقع الديوك الفرنسية بصخبه الداخلي يسمح مع الوقت بإيطاليا جديدة ... فهل تستيقظ فرنسا و تفوت عليهم الفرصة؟! ... سنرى.