اقتصاد السوق لا يعني بأي شكل من الأشكال غياب دور الدولة في تنظيم الحياة الاقتصادية ومراقبتها للأسواق ومعاقبة المخلين بأنظمتها كما حدث في إعلان الوكيل السعودي للسيارات
أحسنت وزارة التجارة والصناعة صنيعاً قبل أسبوعين باتخاذ موقف حازم من أحد وكلاء السيارات في السوق السعودي، لقيامه بنشر إعلانات تحتوي على مخالفات قانونية مضللة للمستهلك، وقامت بإرغامه على تصحيحها. في بيانها الرسمي أوضحت الوزارة أن: "نظام الوكالات التجارية لا يقتضي حصرية الوكالة، إضافة إلى أن جميع أنواع السيارات المعروضة في الأسواق السعودية مصرح بها ويتم فسحها بموجب إجراءات محددة من هذه الوزارة، ومنها مطابقتها للمواصفات والمقاييس".
مع زيادة فتح الأسواق السعودية للتجارة الحرة يطالعنا يومياً العديد من الانتقادات، التي تتهم نظام الوكالات التجارية السعودي بأنه النشاط الأكثر تورطاً في ارتفاع أسعار السلع والخدمات، لكونه يساعد الوكلاء على الاحتكار، بسبب استحواذهم من خلاله على الوكالات الحصرية.
وهذا بالطبع غير صحيح، لأن نظام الوكالات التجارية الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/11 وتاريخ 20/2/1382، لا يمنح الوكلاء والموزعين من قريب أو بعيد الحق في حصر الوكالة أو احتكارها لصالح ذاتهم الطبيعية أو الاعتبارية. بل إن نظام السجل التجاري الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/1 وتاريخ 21/2/1416، منح كل شخصية سعودية، طبيعية كانت أو اعتبارية، الحق في الحصول على السجل التجاري لممارسة كافة الأعمال التجارية ومنها الاستيراد والتصدير لكافة السلع والخدمات. والدليل على ذلك أن هنالك العديد من المؤسسات والشركات السعودية، التي تستورد السلع الاستهلاكية المماثلة بكافة أنواعها وأشكالها ومواصفاتها، لتقوم بتوزيعها وتسويقها في الأسواق السعودية.
كما أن نظام حماية المنافسة الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/25 وتاريخ 4/5/1425، شدد في مادته الرابعة على: "ضرورة حظر المنشآت التي تتمتع بوضع مهيمن من أي ممارسة تحد من المنافسة العادلة بينها، مثل التحكم بالأسعار بالزيادة أو التخفيض أو التثبيت أو بأي صورة أخرى تضر بالمنافسة المشروعة".
المقصود بالوكيل التجاري هو الوسيط بالعمولة الذي يأخذ على عاتقه أن يتعاقد مع موكله باسمه الطبيعي أو الاعتباري لإجراء كافة العمليات التجارية بيعاً وشراءً نيابةً عنه مقابل عمولة مالية محددة ومتفق عليها مسبقاً.
في منظمة التجارة العالمية، يعتبر نشاط الوكالة التجارية بالعمولة عملاً تجارياً بحتاً في قطاع الخدمات المكون من 12 نشاطاً رئيساً و155 نشاطاً فرعياً. ويختص هذا النشاط بتنظيم أعمال الوكالات التجارية اللازمة لتسويق كافة الأنشطة الخدمية الأخرى وجميع السلع التي يبلغ عددها 7559 سلعة، منها 1168 سلعة زراعية و6391 سلعة صناعية.
قبل 250 عاما ابتكر الاقتصادي الإسكتلندي "آدم سميث" في كتابه الشهير "ثروة الأمم" مبدأ "اليد الخفية"، حيث أوضح أن الفرد الذي يسعى لزيادة دخله فإنه يساهم أيضاً في زيادة مجموع الدخل العائد على مجتمعه والارتقاء بالمصلحة العامة لوطنه. لذا أصبح مبدأ "اليد الخفية" مفهوماً يهدف إلى إتاحة الفرص لكل فرد بزيادة دخله بحرية تامة.
فإذا أتيحت الفرصة للصناعي لإنتاج ما يشاء وللتاجر لبيع ما يشاء وللمستهلك ليختار من السلع ما يشاء، يصبح السوق مليئاً بالسلع ذات النوعية المميزة والأسعار المناسبة لجميع الأفراد وبالتالي للمجتمع ككل.في عصر العولمة الذي نعيشه، أخذ مفهوم "اليد الخفية" معنى أعمق وأشمل ليتخطى قواعد المقارنة في التجارة إلى توفير فرص التعاون بين الأفراد بدون إكراه، وليصبح هذا المفهوم نزعةً طبيعيةً يتحلى بها جميع أفراد المجتمع، وجزءاً لا يتجزأ من مبادىء اقتصاد السوق وحرية التجارة. وهذا يؤدي إلى إثراء المنافسة العادلة بين المنتجات من خلال تقليص تكاليف إنتاجها وتخفيض أسعار بيعها لزيادة رقعة تسويقها ومضاعفة منافذ وكلائها في جميع أرجاء العالم.
بهذا المبدأ يسعى المستثمرون للاستثمار في الصناعات المطلوبة من أجل تحقيق الربحية، وتلجأ الجامعات إلى توفير التخصصات المطلوبة في سوق العمل التي تجلب مداخيل أعلى للخريجين، وتقوم الأنشطة الخدمية على دعم توجهات المستهلك والتنافس على تأمين احتياجاته دون خوف من المجهول، مما يؤدي إلى تفاعل المجتمع بشكل طبيعي وإثراء الرفاهية الاقتصادية.
دور الأسواق في التبادل التجاري الطوعي بين الأفراد والكيانات والدول لكافة المنتجات والخدمات، أصبح يمتلك نظرية اقتصادية خاصة به وتحمل اسمه، تدعى اقتصاد السوق. العولمة التجارية ساهمت في تعزيز هذه النظرية بكسر الحواجز أمام تدفق التجارة، لتصبح جميع الدول ملزمة بتحرير أسواقها واللجوء لشراء احتياجاتها من المنتجات الأجنبية إذا كانت تكلفة إنتاجها أقل من تكلفة المنتج المحلي.
تعتمد نظرية اقتصاد السوق على حرية التملك والعمل والإنتاج والتنقل والتبادل النقدي، إضافة لحرية اختيار أنشطتها من خلال المؤسسات والأنظمة النافذة. وتطالب النظرية الدولة بعدم التدخل في مسار التجارة وأنشطتها الاقتصادية حتى يضبط السوق نفسه بنفسه، وألا تقوم الدولة بأي نشاط اقتصادي يستطيع فرد أو مجموعة أفراد القيام به، مع ضرورة تحرير الأسعار وإثراء المنافسة العادلة داخل السوق للقضاء على الاحتكار. ومع ذلك فإن اقتصاد السوق لا يعني بأي شكل من الأشكال غياب دور الدولة في تنظيم الحياة الاقتصادية ومراقبتها للأسواق ومعاقبة المخلين بأنظمتها، كما حدث في إعلان الوكيل السعودي للسيارات.
الأسواق السعودية المفتوحة للتجارة والاستثمار لن تتخلى مطلقاً عن مبادىء اقتصاد السوق وقواعد التجارة الحرة. والمستهلك يتطلع بشغف لمثل هذه المواقف الحازمة والقرارت الصارمة الصادرة عن وزارة التجارة والصناعة للتأكيد على انتفاء صفة الحصرية في نظام الوكالات التجارية، ولتوضيح دور "اليد الخفية" لكل وكيل تجاري لا يتحلى بالمسؤولية تجاه مجتمعه.