تشير معظم نماذج النمو الاقتصادي إلى الدور المركزي للتطور التقني في استدامة النمو الاقتصادي، بل وتذهب بعض النماذج إلى إرجاع النمو الاقتصادي كلية إلى التطور التقني المؤثر تأثيرا مباشرا في إنتاجية وكفاءة عناصر الإنتاج وفاعلية العملية الإنتاجية. فتراكم رأس المال والعمالة لا يكفيان لدفع عجلة النمو الاقتصادي من حالة الثبات إلى حالة النمو دون الامتزاج مع والاستفادة من التطور التقني على المدى الطويل. وتأتي هذه العلاقة من تأثير دمج وإلحاق التطور التقني بعنصري رأس المال والعمل على زيادة كفاءة استخدام رأس المال، ورفع إنتاجية عنصر العمل، وتحسين فاعلية العملية الإنتاجية ككل والطرق المثلى لأداء العمال بجانب تنمية المعرفة المتراكمة.
ولا يقتصر التقدم التقني على الاختراعات وتطوير عملية الإنتاج وكفاءة استخدام رأس المال، بل يشمل أيضاً تحسين إنتاجية عنصر العمل عن طريق تطوير المهارات والقدرات على التعامل مع التقنية الحديثة، وتنمية مهارات التعلم الذاتي، وتحسين الفاعلية الفردية والتواصل الجمعي بما يخدم هدف الرقي بإنتاجية المنشأة جزئيا، والاقتصاد كليا.
ومع تشابك اقتصاديات العالم فيما يوصف بعولمة الاقتصاد وتنافس الدول في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، بات الوصول إلى التقنية وأساليب الإنتاج والحصول عليها في متناول المستثمرين، على الأقل في الجانب التطبيقي للتقنية. فأسرار التقنية وتطوراتها الحديثة لم تعد منتجا حكوميا بحتا يحتكره سياسيون ينفردون بقرار الإفصاح عن التقنيات، ولكن الشطر الأعظم منها يخرج من معامل الأبحاث والجامعات الخاصة، ومعامل البحث والتطوير التابعة لمنشآت القطاع الخاص. وعليه، انتقلت الكرة إلى ملعب الباحثين ورجال الأعمال، حيث يملكون أسرار التقنية وخيار النشر والإفصاح. ومن أجل أن تنجح عملية النقل المعرفي، يجب على الدول العربية عموما، ودول مجلس التعاون خصوصا، فتح قنوات اتصال مع الباحثين ورجال الأعمال الفاعلين في البحث والتطوير لا السماسرة والمضاربين، من أجل توطين التقنية، وذلك بتطويرها وإعطائها قيمة مضافة، تؤثر نوعيا وكميا في كفاءة مدخلات الإنتاج، وفي الميزة التنافسية لمخرجات العملية الإنتاجية.
وحسب تقرير العلم والعالم الصادر عن منظمة اليونسكو، لا تتجاوز نسبة الإنفاق على البحث العلمي إلى الناتج المحلي الإجمالي في العالم العربي نحو 0.5 في المائة، حيث تعتبر من أقل مستويات الإنفاق على البحث العلمي في العالم، ولا يعد الإنفاق على البحث العلمي ونقل المعرفة مسؤولية القطاع العام فقط، بل يتحمل العبء في معظم دول العالم الصناعية القطاعان العام والخاص كون عملية البحث العلمي التطبيقي ذات جدوى اقتصادية لقطاع الأعمال الذي يتحرك ضمن بيئة تنافسية ويسعى دوما لتمايز منتجاته في بيئة تنافسية الفائز فيها هو السبّاق إلى تحسين الجودة وتخفيض التكلفة على المدى الطويل.
ولا يرتبط البحث العلمي وتطوير التقنيات على الجانب الصناعي فقط، حيث إن القطاع المالي وبالذات صناعة التمويل الإسلامية تشهد تطورات وابتكارات متواصلة. ففي خضم المنافسة العالمية بين المنشآت المالية لاقتطاع جزء من سوق الصناعة المالية الإسلامية، تبرز الحاجة إلى تحفيز وإعداد المنشآت المالية والاستثمارية الوطنية لضمان حصتها في السوق الواعدة والآخذة في النمو والتي بلغ حجم أصول المصارف الإسلامية فيها أكثر من 250 مليارا. والخطوة الأساسية لتهيئة المنشآت الوطنية للمنافسة في سوق الصناعة المالية الإسلامية تتمحور حول إنشاء البنية التحتية لمراكز البحث العلمي الاقتصادية والمالية والتي تقوم بدور ''مصنع الأفكار'' أو مركز التنظير والتطوير للمنتجات الموازية للأدوات المالية التقليدية بالتنسيق مع اللجان الشرعية المتخصصة في الجوانب الاقتصادية والمالية. وفي المرحلة الأولى، بالإمكان الاعتماد على مراكز الأبحاث في الجامعات السعودية إن توفر لها التشجيع والدعم المادي والمعنوي عن طريق الإعلام وإقامة الندوات المتخصصة وربط منتجها البحثي بسوق الصناعة المالية الإسلامية عن طريق المصارف المحلية. ويأتي في هذا السياق انعقاد ندوة عنوانها المخاطر في الخدمات المصرفية الإسلامية يوم الثلاثاء الماضي، وذلك بالمعهد المصرفي التابع لمؤسسة النقد العربي السعودي، حيث تناولت الندوة عدداً من المحاور كالإطار العام للمخاطر المصرفية الإسلامية، والمقارنة بين البنوك التقليدية والبنوك الإسلامية في إدارة المخاطر، إضافة إلى مخاطر سوق الائتمان في المصارف الإسلامية.
وبجانب هذه الندوات، من الأهمية أن يشمل الإعداد للبنية التحتية البحثية دعم وتشجيع قيام مراكز الأبحاث المستقلة والمتمكنة من الدمج بين عملية البحث العلمي وتأهيل الباحثين والمختصين في تصميم وتطوير المنتجات المنافسة في سوق الصناعة المالية الإسلامية، بالإضافة إلى القدرة على تسويق المنتجات المالية في الأسواق العالمية وتوفير الاستشارات في هذا الحقل للمختصين الماليين على مستوى العالم. ويظل العائد الأهم للاقتصاد الوطني متمثلاً في الربط بين ازدهار الصناعة المالية الإسلامية وتحسن مؤشرات التوظيف، صادرات الخدمات، تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وضمان نمو اقتصادي مستدام.
وخلاصة القول، يجب التأكيد على الحاجة إلى مشروع وطني يهدف لتوطين المعرفة والتقنية تبعاً لاستراتيجية واضحة المعالم وذات نتائج يمكن قياسها كميا ونوعيا عن طريق عدد براءات الاختراع الوطنية وتسجيل حقوق الملكية الفكرية للمنتجات المالية المطورة محلياً.
شكرا د.قصي نحن دولة شديدة المركزية والمركزية عدو الابداع والابتكار