التخطيط .. بين النظرية والتطبيق

11/04/2011 0
نايف آل خليفة

لم يعد يخفى على كل ذي لب ما للتخطيط من أهمية ودور فاعل في قيادة المنشأة إلى مستقبل تتجلى فيه الرؤية للأهداف المنشودة والأدوار المرسومة على خطى مدروسة وبتكتيكات موزونة؛ فالتخطيط مزيج من النشاط الذهني والإجراءات العملية والخبرات المكتسبة التي تستطيع المنشأة من خلالها تحقيق الغايات ومواجهة الأزمات المستقبلية. وليس ذلك فحسب بل هو نشاط تنظيمي يمنح المنشأة القدرة العالية على الرقابة الداخلية من خلال قياس الأداء وجودة المخرجات التشغيلية بحسب الخطط المرسومة؛ كما يبعث الطمأنينة وراحة البال في العاملين من الإداريين والموظفين لما يجدون من وضوح في الأدوار والأعمال الموكلة إليهم.

لم يكن يدرك كثير من الدول فضلاً عن الشركات أهمية التخطيط حتى برزت تلك الدول العظمى والشركات العملاقة ورسّخت أقدامها على مرابع القيادة وكان لها السبق في العديد من المجالات، وذلك يعود إلى إدراكها المبكر لأهمية التخطيط السياسي والاقتصادي والاجتماعي ومحاولة قراءة المستقبل قراءة دقيقة مما جعلهم قادرين على تحري الفرص واقتناصها في مهدها، فنحن نعيش في هذا القرن ونرى ذلك التقدم الهائل على المستوى التعليمي والصناعي والخدماتي، بل يذهب الأمر إلى أبعد من ذلك لتتحفنا الأبحاث العلمية ما بين الفينة والأخرى بمستجدات يكاد العقل لا يصدقها، فالعالم في تسارع نحو التقدم والازدهار وذلك ببركة نوعية التخطيط والأهداف المدروسة وليس ذلك فحسب بل وقدرة الإدارات التنفيذية العالية والكفاءات المتنوعة التي تستطيع أن توفق ما بين تحقيق الأهداف والتكتيكات الزمنية المطلوبة لبلوغ الهدف.

كما أن التخطيط هو طريق إلى الإبداع، حيثُ تتخذ فيه القرارات الصائبة المبنية على أسئلة واقعية تكون بمثابة البيانات الأولية التي تتم معالجتها من خلال المرحلة التشغيلية لتخرج لنا المعلومة في صورة أهداف نهائية؛ كما أن تحقيق الأهداف يتطلب معرفة وفهم الوضع الراهن الذي نعايشه بعمق ودقة؛ بحيث أن تكون النظرة شمولية ومنطقية وأن تأخذ التغيرات والتوقعات الإيجابية والسلبية في الحسبان، ومثال ذلك سنفترض أن هناك منشأة (أ) تعمل في مجال المجوهرات وأرادت أن تتوسع في نشاطها من خلال خط إنتاجي جديد تتوقع أن يكون له إسهام في تعظيم ثروة المنشأة وأن يحقق نجاحاً ملموساً وذلك من خلال التوقعات الأولية للفكرة. هنا يجب على المنشأة أن تجيب عن السؤال التالي: ''أين نحنُ الآن''؟ وذلك من خلال جمع البيانات المطلوبة لمعرفة حجم الإمكانات المتاحة للموارد الطبيعية والظروف الاقتصادية والقدرات الإدارية والتسويقية الحالية، وقراءة المتغيرات قراءة دقيقة بجانبها السلبي والإيجابي، وفي ضوء مثال المنشأة (أ) فإن المنشأة التي تعمل في مجال صياغة الذهب والمجوهرات تواجه في العادة تقلبات سريعة في سعر (أونصة الذهب) بحسب المؤثرات الاقتصادية أو السياسات الدولية والمحلية، وكذلك الثقافية والاجتماعية، وعليه يلزم على المنشأة أن يكون لديها تصور واضح عن المعطيات الحالية التي تمثل بيانات أولية يمكن جمعها بطرق مختلفة كما هو معلوم لدى أهل الاختصاص الإحصائي في ذلك.

كما أن هذه البيانات في الغالب تكشف عن فجوات تسويقية وفرص متاحة لم يتم استغلالها؛ ولا يمكن التنبؤ بها إلا من ذوي الاختصاص والخبرة، وهذا الأمر بلا شك يكون في جميع المجالات والأنشطة المختلفة، وعلى ذلك فإن المنشأة ومن خلال البيانات الأولية يمكن أن تنشئ قاعدة معلومات استراتيجية توسعية للمنشأة تستطيع من خلالها قراءة مستقبل النشاط وظروفه الاقتصادية.

بطبيعة الحال فإن الأهداف منبعها الأساسي هي الفكرة المدفوعة غالباً بدافع الحاجة إلى التوسع الاقتصادي والسيطرة التسويقية والمنافسة المستمرة، فحينما فكرت المنشأة (أ) بإنشاء خط إنتاجي جديد فإن الفكرة كانت منطلقة من الرغبة في التوسع الأفقي للقطاع وإيجاد ميزة تنافسية تستطيع من خلالها أن تواجه منافسيها، وعليه فإن الأهداف يجب أن تكون فريدة ونوعية في طبيعتها وأن تكون حالية ومستقبلية، وأقصد بالحالية هنا تجزئة الهدف على مراحل زمنية تستطيع المنشأة من خلالها أن تدرك بأنها تسير حسب الخطط المرسومة لها، ومثال ذلك فإن المنشأة (أ) التي تنتج ألف كيلو جرام في السنة وتسعى إلى إيجاد خط إنتاجي جديد تقدر إنتاجيته بـ 500 كيلو جرام في السنة وهو الهدف المخطط له فإنه يتطلب توزيع الهدف إلى أهداف مرحلية تختلف باختلاف المدة الزمنية المحددة لتحقيق الهدف النهائي، وبما أن المنشأة هنا تسعى إلى تحقيق ذلك خلال سنة واحدة فإننا نحتاج إلى تقسيم الهدف إلى أربع مراحل بحيث يتم إنتاج 125 كيلو جراما كل ثلاثة أشهر وهذا التقسيم سيمنح المنشأة القدرة العالية على تحديد مكامن القوة ونقاط الضعف في الاستراتيجية والقدرة على استقراء الأداء وقياس الجودة، كما أن المنشأة ستجد نفسها في كل مرحلة من مراحل العمل تسير وفق رؤية واضحة وأن العقبات تتلاشى شيئاً فشيئا، وأن القدرة على مواجهة أي أمر طارئ باتت سهلة وهذا ما يقلق كثيرا من المنشآت المرتبط تأثيرها الاقتصادي غالباً بعوامل خارجية. كما أن الأزمات تختلف في الغالب مع اختلاف طبيعة التعامل معها فهناك أزمات داخلية مرتبطة بالإنتاج ومراحله المختلفة وهناك أزمات خارجية يكون لها تأثير مباشر وغير مباشر في مخرجات الإنتاج النهائي إلا أن التعامل مع هذه الأزمات يتوجب وجود خطط بديلة للتعامل مع الأزمات المتوقعة وهنا تكمن إشكالية كثير من الشركات التي تخطط جيداً لمستقبلها وفق الأهداف المرسومة وتحقق بذلك إنجازات عظمى، ولكن حينما تواجهها أزمة أياً كانت طبيعتها فإنها تبدأ بالتراجع والتوقف عن تحقيق أهدافها نظراً لعدم القدرة على مواجه الأزمة، ولعدم وجود الخطط البديلة التي تنقل المنشأة من مسارها الحالي إلى مسار أكثر أمانا وأقل خطورة، ففي المنشأة (أ) بدأ العمل على تحقيق الهدف المرسوم له وهو إنتاج 500 كيلو جرام وذلك من خلال خط إنتاجي جديد إلا أن ''الرياح تجري بما لا تشتهي السفن'' حيثُ إن الخطة تم إعدادها في ضوء تذبذب سعر أونصة الذهب ما بين القاع 500 دولار والقمة 800 دولار وذلك في ظل ركود اقتصاد وسياسي، وفي لحظات اختلفت الموازين وانحرفت بوصلة الخطة دون تحسبٍ مسبق قد يطرأ في أي حين؛ حيثُ إن سعر أونصة الذهب قفز إلى أعلى مستوى له متأثرا بتوترات سياسية واقتصادية كان لها تأثير مباشر في الاقتصاد العالمي والمحلي مما دفع بالسعر''افتراضاً'' ليصل إلى 1500 وواقعياً في الحقيقة ليس ببعيد عن ذلك إن لم يكن إحدى المحطات العابرة التي سيتخطاها نتيجة الطلب المستمر والعوامل الاقتصادية الأخرى؛ هذا التغير بطبيعة الحال سيضع المنشأة في مرحلة حرجة وأزمة مرحلية وذلك من خلال تعاملها مع السعر الجديد الذي لم يخطط له مسبقاً أو يؤخذ في الحسبان ومن المؤكد أنه سيدفع المنشأة إلى إعادة صياغة الخطة لتحقيق الهدف وفق السعر الجديد، وعليه تتضح أهمية قراءة التوقعات الإيجابية والسلبية المستقبلية على المنشأة والخطط البديلة في كلتا الحالتين؛ فالتخطيط السليم يسير وفق مسار مستقيم يحفه مساران إيجابي وآخر سلبي يتيح للمنشأة استغلال الفرص التي قد تطرأ وذلك في إطار خطة منتظمة تساعد على تسيير العمل بانتظام وعناية وقل مثل ذلك في المسار السلبي.

إذن لم يعد التخطيط عملا تنظيميا لتحقيق أهداف محددة فحسب بل يتعدى أهميته إلى أبعد من ذلك ليصل إلى تجنب العقبات وتحري الفرص المتاحة، كما أن التخطيط لكي يتحقق الهدف المنشود له فإنه يحتاج إلى قائد بارع وحازم؛ فالقائد الناجح هو وحده من يستطيع أن يبقي العمل على المسار المخطط له دون أي انحراف قد يطرأ بمؤثرات سواءً داخلية أو خارجية وذلك لعلمه التام بماهية وأهمية العمل المخطط له والوقت الذي يسعى من خلاله إلى تحقيق ذلك؛ كما أن التخطيط يكسب المنشأة الصورة الحسنة والثقة التامة من قبل المستفيدين الداخلين والخارجين وكذلك العملاء؛ فالشركة التي تحدد أهدافها وتخطط لها جيداً وتعلن عن ذلك هي بكل تأكيد قادرة على إرضاء موظفيها بالدرجة الأولى وزيادة فعاليتهم وقدراتهم وذلك من خلال تنميتهم بما تتطلب إليه حاجة العمل وإرضاء عملائها من خلال وضوح المستقبل المخطط له.

إن عملية التطوير المستمر التي تحتاج إليها أي منشأة لتصنع مستقبلا مشرقا لها وتعزز من وجودها في السوق لا تتم إلا وفق إطار مدروس ومخطط له بعناية مطلقة، وذلك من خلال تفعيل الأدوات المادية والفكرية فضلاً عن الخبرات الراسخة والقيادة الناضجة، فالعمل بدون تخطيط هو بمثابة ''السير في الظلام'' لما يكون فيه من قرارات ارتجالية مبنية على حاجات شخصية ومتأثرة ربما بانفعالات نفسية، ولهذا نجد أن أغلب المنشآت المتعثرة تعمل بعقلية ''الرجل الواحد'' سواء كان رئيساً تنفيذياً أو مديرا عاما أو صاحب قرار نهائي، وتكثر هذه المشكلة غالباً في الشركات العائلية نظراً لتفرد أصحاب القرار بتحديد الأهداف المستقبلية من باب التعجيل في تعظيم الثروة دون الاهتمام بآلية العمل وجودة مخرجاتها أو العلم بأهمية التخطيط وكيفية تنفيذه، ولهذا نجد أن أغلب المختصين والمهتمين بشؤون الشركات العائلية وخاصة ذات الأثر الاقتصادي المشهود ينادون بتحويل تلك الشركات العائلية إلى شركات مساهمة والتي تتحقق بها المنافع الخاصة بأصحاب الملكية من تعظيم للثروة والتوسع في الأنشطة وغير ذلك، وكذلك المنافع العامة والمتمثلة في بقاء الشركة مساهمة في تنمية اقتصاد البلد والمشاركة في تحقيق خطط التنمية، وهذا ما يجب أن يكون لكي يسير الاقتصاد وفق الخطط العامة التي تعلن عنها الدولة والأهداف المرسومة والمدروسة بعناية من ذوي الاختصاص والخبرة.

خلاصة القول إننا نحتاج إلى توعية مجتمعاتنا ثقافياً ومعرفياً بأهمية التخطيط، فالتخطيط لم يعد يقتصر على الأعمال التجارية أو التوسع في الأنشطة أو ما إلى ذلك بل تعدى ذلك كله ليصبح - وهذا المفترض - جزءا من حياة كل إنسان، والمسار الذي يسير به لتحقيق حاجاته ورغباته غير المنتهية، ولذلك كثيرا ما نسمع من يقول: ''ذهب العمر ولم أحقق شيئا أو لم أكتسب شيئا!!'' أو ما شابه ذلك من تعابير التذمر والجزع الذي لا يزيد صاحبه إلا خذلاناً وفشلا، ولهؤلاء المتذمرين أقول إن تحقيق الغايات وإدراكها لا يكون بالفوضوية فنحن نعيش في هذه الدنيا وفق نظام رباني واضح الرؤية المستقبلية والخطوات اليومية بل خلد الله لنا سير السابقين ليكون بمثابة المعلومات المهمة التي نستطيع أن نخطط لمستقبلنا على أثرها دون إفراط أو تفريط في المكاسب أو المخاطر المستقبلية المتوقعة، وكل ما نحتاج إليه فعلياً هو تنمية ثقافتنا وزيادة معرفتنا بالتخطيط لصناعة مستقبل مشرق لنا ولأبنائنا وهذا ما نحتاج إليه فعلاً لكي نقول: ''لم يذهب العمر سدى''.