منذ قيام الثورة في 25 يناير الماضي حتى هذه اللحظة، وفيما عدا خلع النظام السابق، فإن الأوضاع، بصفة خاصة الاقتصادية، لا تسير على ما يرام وتتردى يوما بعد آخر، بما ينذر بأنه ما لم تتغير الأوضاع الحالية في مصر، فإن الفترة القادمة سوف تشهد تدهورا خطيرا في الجانب الاقتصادي. صحيح أن الثورة قد ساعدت على تحرير مصر من نظام أشاع الفساد في كافة جوانبها وتراجعت على عهده مصر في كافة المجالات تقريبا، على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وفقدت مصر ريادتها عربيا وإفريقيا، في معظم الجوانب، بسبب أن النظام السابق لم يكن يهتم بدور مصر أو موقعها، بقدر ما كان بموقعه هو، وبكيفية ترسيخ وضعه هو على كرسي الحكم، وتكريس كافة الجهود للتأكد من انتقال الكرسي لابنه من بعده.
الآن وقد تخلصنا من هذا النظام، فإن المرحلة القادمة هي في حقيقة الأمر امتداد للثورة، وفي رأيي فإن ثورة مصر القادمة هي ثورة لدفع مصر نحو الأمام، وإلا فإن السيناريوهات التي تنتظرنا سوف تكون مرعبة. فعجلة الإنتاج لا تسير حاليا في الكثير من قطاعات الدولة على نحو مناسب، والسياحة شبه متوقفة، والصادرات تتراجع على نحو مقلق، والضرائب لا تجمع، في الوقت الذي يتعطل فيه مسار عملية الإنتاج من وقت لآخر بسبب إضراب العمال والذين أساءوا، للأسف الشديد، فهم المعنى الحقيقي للثورة واستحقاقاتها من كل مجموعة من المجموعات المختلفة في المجتمع، وموارد النقد الأجنبي للدولة تتراجع بصورة مثيرة للقلق.
الثورة ليست كما يتصور البعض هي السبيل للتمرد على الأوضاع الحالية وطلب تحسين الأوضاع التي تدهورت خلال الثلاثين عاما الماضية منذ تولي مبارك زمام السلطة في مصر، بين يوم وليلة، حيث قامت قطاعات كبيرة من العاملين في الدولة على قلب رجل واحد منادين بتحسين أوضاعهم المعيشية ورفع مستويات دخولهم كي تتماشى مع المستويات المرتفعة من الأسعار، بينما انتفضت قطاعات أخرى لتصفية حساباتها، ربما مع رئيسهم الأعلى، أو زملاءهم في العمل، أو مع المؤسسة التي يعملون فيها، وهو ما يعكس حقيقة أن هناك سوء فهم واسع النطاق لاستحقاقات الثورة والواجبات التي يجب أن تقع على عاتق كل فرد والمجموعات المختلفة في الدولة في هذه الفترة الحرجة من تاريخ مصر الحديث. فالمرحلة الحالية والقادمة من تاريخ مصر ليست مرحلة أخذ، وإنما هي مرحلة عطاء، ولا يعقل أن نطالب اليوم بما فقدناه خلال 30 عاما مضت، ذلك أننا لن نحصل على ما نطالب به من الناحية الحقيقية من خلال الإضرابات والمطالبات، فلن يعطينا إياه أحدا وإنما السبيل الصحيح للحصول على ما نطالب به هو العمل، أي أننا من سيقوم بإنتاجه بأنفسنا.
ما الذي يحاول العمال أن يحققوه عندما يضربون عن العمل؟ الذي لا يفهمه هؤلاء الذين يضربون عن العمل والذين يطالبون بزيادة مرتباتهم، أو الذين يحرقون مكاتبهم، أو الذين يريدون تغيير هياكل إداراتهم .. الخ أننا في حالة ثورة، والثورة لا تعني أن يتوقف دولاب الإنتاج عن العمل وإلا فمن المؤكد أننا مقدمون على كارثة اقتصادية حقيقية إذا لم يفهم كل مواطن دوره، ويؤدي ما عليه من واجبات قبل أن يستوفي ما له من حقوق. إن على الجميع أن يعلم أن ما يحصل عليه من دخل ليس مجرد أوراق نقدية تطبعها الدولة، وإنما هو جزء من القيمة السوقية لما يقوم هو بإنتاجه من سلع أو يقدمه من خدمات سواء في المصنع الذي يعمل به أو المزرعة التي يزرع فيها أو المكتب الذي يعمل فيه، فلا دخول بدون ناتج.
المطالبون بزيادة دخولهم وتعويضهم عما تحملوه طوال السنوات الماضية يعيشون بالفعل ما نطلق عليه في علم الاقتصاد الوهم النقدي Money illusion، حيث يسعدون بزيادة ما في أيديهم من نقود، دون أن يدركوا حقيقة أن هذه النقود، على الرغم من كثرتها، قد لا تساوي شيئا، أو تساوي قيمة اقل. فعندما يطالب العمال بالحصول على زيادة في أجورهم، دون أن يصاحب هذه الزيادة في الأجور زيادة حقيقية في الناتج، فإن هذه الزيادة لا بد وأن يتم تمويلها من خلال الإصدار النقدي، فتكون النتيجة هي أن زيادة الأجور التي حصل عليها العمال سوف تضيع في صورة ارتفاع معدل التضخم، ليكتشف العمال في النهاية أنهم كانوا واهمين عندما اعتقدوا أن ما سيحصلون عليه من ارتفاع في أجورهم النقدية سوف يحسن من مستويات معيشتهم، وذلك عندما تلتهم ارتفاعات الأسعار، أو التضخم، تلك الزيادات في الأجور النقدية. السبيل الأنجع والأسلم لزيادة مستويات المعيشة هو تكريس الجهود نحو زيادة الإنتاج وتحسينه والارتقاء بجودته لرفع تنافسية وحدات الإنتاج التي يعملون فيها، ورفع قدرة البلد على استيفاء احتياجاتها من خلال ما تنتجه محليا، وتصدير ما يفيض عنها إلى الخارج، وتقليل اعتمادها على ما تستورد من سلع تمثل عبئا شديدا على موارد النقد الأجنبي المحدودة جدا في مصر.
الفترة القادمة قد تتطلب من مصر التحرك السريع لتكثيف جهودها في السعي لدى مؤسسات التمويل الدولية، وصناديق التمويل الدولية والإقليمية لضمان تقديم المعونة اللازمة لتمويل مشروعات التنمية في المجالات المختلفة في مصر، بصفة خاصة تلك التي ترفع من مستويات تنافسيتها. مصر تحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لتسخير طاقاتها وإمكانياتها، بصفة خاصة البشرية، لدفع عملية النمو الاقتصادي نحو الأمام.
العالم يتحدث حاليا عن مجموعة الـ 11 القادمة وهي مجموعة من الدول النامية والناشئة يتوقع أن تحقق معدلات نمو مرتفعة في المستقبل، بعد مجموعة الـ BRIC والتي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين، والتي توصف بأنها أسرع دول العالم من حيث معدلات النمو. العالم يصنف الآن المجموعة الثانية من الدول المرشحة لأن تكون أكثر دول العالم نموا في السنوات القادمة، فمنذ حوالي 3 سنوات تم تحديد 11 دولة في العالم أطلق عليها مجموعة الـ 11 القادمة، وتمت دعوة الاستثمارات الخاصة المباشرة في العالم للتحول نحو هذه الدول للاستفادة من الفرص الكامنة فيها، وهذه الدول هي بنجلاديش ومصر واندونيسيا وإيران وكوريا الجنوبية والمكسيك ونيجيريا وباكستان والفلبين وتركيا وفيتنام، ومن الواضح أهم الخصائص المشتركة بين هذه المجموعة من الدول تتمثل في أنها جميعا تمتلك حجما سكانيا كبيرا، وبالتأكيد من بين هذه الدول مصر. ففي عالم اليوم أصبح السكان قوة وأساس للسوق الاستهلاكي المتسع، وبالتالي لجهاز إنتاجي ضخم، على عكس ما كان ينظر إليهم من الناحية الكلاسيكية.
غير أن تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى الجانب الأكبر من هذه المجموعة من الدول يواجه العديد من العقبات، أهمها انتشار الفساد وعدم كفاية البنى التحتية وعدم مناسبة بيئة الأعمال بما في ذلك توافر الأمن وكذلك تعقد القوانين المنظمة للأعمال. يفترض في مصر الثورة ان تقوم بالتعامل الفوري مع هذه العقبات، بصفة خاصة القضاء على الفساد واستعادة الأمن في الشارع ورفع جودة بيئة الأعمال لخلق بيئة أعمال شفافة وجاذبة للاستثمار الأجنبي حتى يمكن ان تنطلق قوى النمو في مصر بما يعكس إمكانياتها الحقيقية والتي ظلت مقيدة لفترة طويلة من الزمن بسبب النظم السياسية التي توالت عليها.
للأسف الشديد في خضم غفلة الجميع وانشغالنا بتصفية حساباتنا مع أنفسنا أو مع الدولة، نسينا أن النظام السابق لم يمت كما يتصور البعض، وأن الحرس القديم لم يختف من الساحة كما يعتقد الكثيرون، فمن المؤكد أن رموز النظام السابق ما زالوا يحلمون بعودة الأوضاع على ما كانت عليه، وأن الكثير من رجال الاعتمال الذين نموا وترعرعوا في أحضان الفساد لا يتصورون أنهم يمكنهم العيش في بيئة مختلفة، حيث تسود قيم المنافسة والشفافية وحرية السوق وحقوق المستهلك، فهم لا يفهموا هذه الآليات لبيئة الأعمال ولا يستطيعون اللعب بها، إنهم لا يفهمون إلا آليات الفساد، وقد كشفت التطورات على الأرض أن العديد من المؤامرات تحاك في الظلام من اجل القيام بثورة مضادة. صحيح أن احتمالات نجاح مثل هذه التحركات وقدرتها على تحقيق انعكاس للأوضاع على أرض الواقع تبدو شبه منعدمة، إلا أن المشكلة الأساسية هي ما تتركه مثل هذه التحركات من آثار، وما تسببه من تراجع في الأداء وما تستنزفه من موارد حتى نتعامل معها أو نتغلب عليها.
خذ على سبيل المثال أعمال العنف الطائفي في اطفيح بمحافظة حلوان، والتي أدوت بحياة 13 شخصا وحوالي 150 جريحا، والتي كادت أن تشعل نار الفتنة بين المسلمين والمسيحيين لولا تدخل العقلاء من الجانبين، فعلى الرغم من أن الجميع متفق على أن الحرس القديم هو من قام بتدبير مثل هذه الأحداث، حيث يقومون من وقت لآخر بتجنيد البلطجية للقيام بأعمال تدخل تحت تصنيف عمليات الثورة المضادة، وذلك لمناهضة الثورة وعرقلة عودة الحياة لطبيعتها والتسبب في حدوث حالة من الانفلات الأمني وترويع المواطنين لتشويه الثورة وتعطيل جهود بتر الفساد، فإن التعامل مع هذه التحركات وإطفاء الفتن لا شك تستغرق وقتا وجهدا من كل رجال الدولة وأحيانا أموال طائلة للتعامل مع مفرزاتها.
من الناحية التقليدية فإن إشعال الفتنة بين المسلمين والمسيحيين من وقت لآخر كان أحد أساليب النظام السابق لضمان استمرار فرض حالة الطوارئ، وتأكيد بقاءه على كرسيه، استنادا إلى سياسة "فرق تسد". أما وقد انتهى هذا النظام اليوم فليس هناك أي مبرر لمثل هذه الأحداث المؤسفة، والتي يؤججها الحرس القديم مستفيدا، للأسف الشديد، من تهور البعض أو جهله ببواطن الأمور، أو عدم فهمه لحقيقة الدين الصحيح، وأن لكل فرد الحق في الحياة على هذه الأرض، بغض النظر عن دينه أو مذهبه، فالدين لله والوطن للجميع. إن على الجميع أن يعلم أن الظروف الحالية في مصر لا تتحمل مثل هذه الأحداث المؤسفة وعلى الجميع، مسلمين ومسيحيين، أن يتحلوا بالصبر واللين، لأننا ليس لدينا من خيار آخر سوى ان نعيش جنبا إلى جنب على هذه الأرض الطيبة، مثلما فعلنا سويا لمئات السنين في الماضي، ولا خيار آخر أمامنا سوى أن نستمر كذلك ما شاء الله لنا في المستقبل.
لا شك أننا في مصر نواجه حالة اضطراب عظيم، وأننا نحتاج إلى أن نضع هذا الاضطراب خلف ظهورنا ونتطلع إلى الأمام ونسير وننتج ونجتهد ونشد الحزام بعض الشيء على بطوننا، حتى نجني ثمار ما ننتجه لاحقا. الجميع اليوم مطالب بأن يفهم طبيعة دوره وطبيعة دور الدولة، فهناك الكثير من الإصلاحات التي تسير بشكل جيد، ولكن الإنتاج لا يسير كما ينبغي وتلك هي المعضلة، كما أن خزينة الدولة لم يدخلها شيء تقريبا منذ قامت الثورة، فمن أين لها أن تدفع المرتبات وتولد الكهرباء وتحلي المياه وتدعم الخبز وتوفر الأمن وتنفق على الصحة والتعليم وتشيد مشروعات البنى التحتية... إلى آخر هذه القائمة الطويلة من الوظائف التي تقوم بها الدولة، حتى تستوفي المطالب الأساسية للناس وتحسن من مستوى معيشتهم، بل كيف لها ان تقوم بخدمة الديون الخارجية المستحقة عليها، وذلك عندما يحل ميعاد استحقاق أقساط تلك الديون، في ظل جفاف منابع النقد الأجنبي الذي تعيشه الدولة حاليا.
لا يمكن للدولة ان تستمر على هذا الوضع لفترة طويلة من الزمن دون أن تضطر إلى خيارين في منتهى الخطورة، الأول هو تكثيف عمليات الاقتراض من الخارج لسد فجوة الموارد الخارجية، وهو خيار سوف يكون مكلفا للغاية، في ظل التصنيف الائتماني الحالي لمصر، ومن الممكن، لا قدر الله، في حال لم تتمكن مصر من تأمين احتياجاتها من النقد الأجنبي، أن تضطر إلى إعلان إفلاسها. أما الثاني فهو طبع النقود لسد فجوة الموارد المحلية، وهو ما يمكن ان يشعل نيران التضخم في بيئة تتسم بأنها تضخمية في الأساس. باختصار إذا استمرت مصر بهذه الأوضاع التي تسود حاليا، فإن السيناريو الوحيد الذي ينتظرنا في المستقبل هو الإفلاس، وبدلا من أن تكون الثورة العظيمة التي قامت في مصر نعمة بالنسبة لها، فقد نجد، لا قدر الله، من ينادي بعودة النظام القديم مرة أخرى.
دكتور محمد لكل ثورة خاسرين وهؤلاء الخاسرين سوف يسعون لجعل الشعب المصري يندم على فعلته . سوف يقومون بتحريك مفاصل معينة من الاقتصاد المصري وباكفف مغطاه بالمخمل لجعله يتهاوى ان استطاعوا . سوف يكونون مع مظاهرات العمال لرفع مطالبهم لدرجة تقوض العملية الاقتصادية. هل يستطيع من يدير كفة الاقتصاد حاليا من اعادة امال العمال الى شىء قريب من الواقع الاقتصادي . هنا يكمن التحدي.