لا يختلف اثنان على أن تحدي توفير المياه العذبة للمستهلكين في المملكة هو من أكبر التحديات أخذا في الاعتبار ندرة الأمطار والاستنزاف غير المسؤول للمياه الجوفية، التي تتكون أحواضها في باطن الأرض على مدى ألوف السنين كنتيجة لهطول الأمطار واستدامتها. ويعتبر المصدر الرئيس لتوفير المياه العذبة الصالحة للشرب والاستخدام في المملكة المياه المحلاة التي تضطلع بمسؤوليتها المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة. هذه المؤسسة هي كالجندي المجهول في الاقتصاد السعودي، ففتح صنبور المياه واستهلاكها أصبح مسلما به ومن الضروريات اللازم وجودها في أي مكان دون التفكير في الخطوات والتجهيزات التي أدت بالمياه العذبة للوصول إلى الحنفية. هذه المؤسسة التي كانت تعمل بصمت بدأت خططها بالظهور للعلن حين أوردت ''الاقتصادية'' يوم الأربعاء الماضي 9/3/2011 نقلا عن وكالة الأنباء السعودية خبرا عن إبرام ''المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة اتفاقية تعاون مع شركة دوسان الكورية بهدف امتلاك المؤسسة وبصورة قانونية ونظامية جميع الحقوق الهندسية والفنية لهندسة وتصميم وتصنيع إنشاء وحدات تحلية من نوع متعددة التأثير MED بطاقة إنتاجية تبلغ 68190 ألف مترمكعب يوميا من المياه المحلاة''. هذا الخبر تضمن أيضا إيضاحا لتوجهات المؤسسة، حيث كشف نائب المحافظ لشؤون التشغيل والصيانة المهندس ثابت اللهيبي ''أن الهدف الأساسي من هذه الاتفاقية ضمان امتلاك المؤسسة كامل المعرفة والأسلوب والإدارة بتصميم وهندسة وإنشاء وتطوير هذا النوع من الوحدات وتوثيق كل تلك المعرفة والأساليب والتخطيط والشراء والهندسة والتصميم والتدقيق والاختبار والتشغيل والتطوير والتصنيع لكامل تفاصيل المشروع الميكانيكية والكهربائية والأجهزة والمدنية وتوثيق كل ذلك بما يمكن فعليا من معرفة التفاصيل الجزئية للمشروع، ويحقق بالتالي الهدف الرئيس من المشروع وإنجاز المشروع في الوقت المحدد وحسب المواصفات المتفق عليها''. بمعنى آخر، تسعى المؤسسة إلى توطين تقنية تحلية المياه بالكامل؛ كوننا الدولة الأكثر استهلاكا للمياه المحلاة في العالم، وهذا توجه منطقي وضروري؛ نظرا لحيوية هذا القطاع وتأثيره في الأساسيات التي يتطلع لها المواطن وهيكل البنية التحتية الحالي والمستقبلي، الذي قد يرتبط بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالاستثمار الأجنبي والمتغيرات الاقتصادية الكلية الأخرى.
حقيقة، لقد سال الحبر منذ زمن طويل وعقدت الندوات والمحاضرات والمؤتمرات في نداءات إلى توطين التقنية بشكل عام، لكن دون نتائج ملموسة أو مشاريع تتم متابعة أدائها ودورها في توطين التقنية والتوظيف اللهم إلا بعض المشاريع الخجولة التي ارتكزت على تجميع قطع غيار ومكونات إنتاج مستوردة تم جمعها بأيد عاملة أجنبية أيضا، لتكون المحصلة أن هذه التقنيات تبقى أجنبية ولا يتم توطينها وتلاقي الفشل الذريع في حالة غياب الدعم الرسمي أو حين تجابه قوى السوق. والمشكلات والعثرات التي أدت إلى الفشل في توطين التقنية - باستثناء قطاعي النفط والبتروكيماويات لدرجة ما - متعددة وترتبط بالدراسات المبدئية والتسويقية والهندسية وبنموذج توطين التقنية ككل! فتوطين التقنية ليس غاية في حد ذاته، بل هو إحدى أدوات تحقيق التنمية المستدامة والتوظيف والأهداف الاقتصادية العليا، فإذا تم تحقيق أهداف التنمية المستدامة والتوظيف دون توطين التقنية، فليكن! لكن الواقع الاقتصادي يحتم توطين التقنية وتطويرها للوصول إلى اقتصاد تنافسي منتج ومتنوع - وليس اقتصادا ريعيا - يعتمد نموذج نموه على القدرة التنافسية الوطنية التي تعتمد على التقنية ورأس المال البشري والاختراعات والابتكارات التي تسهم في رفع الكفاءة والإنتاجية للاقتصاد ككل.
وبنظرة سريعة إلى اقتصادنا الوطني، نلاحظ أن عملية توطين التقنية نجحت نسبيا في قطاعي النفط والبتروكيماويات مقارنة بجميع القطاعات الأخرى، وإن كان هذا النجاح لا يرقى إلى تطلعاتنا. وقد تكون للميزة النسبية التي تتمتع بها المملكة في إنتاج النفط بأسعار تنافسية وانخفاض أسعار لقيم إنتاج البتروكيماويات دور كبير في تمتع هذين القطاعين، وبالتحديد شركتا أرامكو وسابك بقدرة على توطين التقنية من خلال الاستحواذات والتحالفات مع كبرى الشركات العاملة في مجالاتهما؛ لذا، من الملح والضروري الآن أن تقوم كل من ''أرامكو'' و''سابك'' بإنشاء معهد أبحاث وتدريب على هذه التقنيات وما يستجد كأكاديمية تستهدف الشباب السعوديين حديثي التخرج ليتم صهرهم وإدخالهم في بيئة استقبال وتفكيك وتطوير التقنيات التي تم الحصول عليها من الشركاء الأجانب أو التي تم تطويرها في معاهد الأبحاث التابعة كمركز أبحاث سابك في الهند.
وبالعودة إلى المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة وتصريح توطين التقنية وامتلاك حقوقها من الشركة الكورية، فإن من المبكر الحكم على قدرة المؤسسة على توطين التقنية ما لم يتم الإعلان عن خطة ممنهجة ومدروسة للتمكن من توطين التقنية وربطها بالوحدات الاقتصادية الأخرى والاقتصاد ككل، حيث إن ربط التقنية الجديدة بالشركات والمصانع الوطنية وإشراكهم إلى جانب الجامعات في عملية التوطين من مراحل مبكرة يعتبر من الأمور المهمة التي يجب الالتفات لها.
وختاما، بجانب أهمية وضع خطط ومنهجيات واضحة لتوطين التقنية، من المهم أن يتم التنسيق بين مختلف المؤسسات العامة والجهات الحكمية والقطاع الخاص للتمكن من الحصول على التقنيات ذات الأهمية الاستراتيجية. ويبرز هنا تساؤل: لماذا لم تفكر المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة في شراء حصة في الشركة الكورية كي تستفيد من المشروع الكبير كعوائد استثمارية وللتسهيل في عملية نقل التقنية؟