أسر كارثية 2

15/02/2011 33
د.محمد إبراهيم السقا

في مقال سابق لي بعنوان اسر كارثية، تناولت واحدة من الأسر الكارثية في العالم، وهي أسرة "كيم ايل سونغ" في كوريا الشمالية، وأن هذه الأسرة حولت كوريا الشمالية من جمهورية إلى مملكة، لا تحمل اسم المملكة، وفي ظل توجيه كافة موارد الاقتصاد ومقاديره نحو خدمة الأسرة تراجع اقتصاد كوريا الشمالية إلى الحد الذي أصبح فيه انتشار سوء التغذية يعتمد على مدى تدفق المساعدات الغذائية من العالم، وتحول الشعب الكوري من شعب منتج إلى شعب يعيش على الإعانات، للأسف الشديد، في الوقت الذي يعيش فيه أبناء عمومته في الجنوب في واحدة من أكثر دول العالم رفاهية، حيث تناطح كوريا الجنوبية اليوم أكثر دول العالم تقدما ومنتجاتها تغزو كافة أسواق العالم من الإبرة حتى أكبر الناقلات في العالم.

استطاع نظام أسرة "كيم ايل سونغ" أن يغسل مخ كل الكوريين في الشمال وإقناعهم بأنه هو النعمة الإلهية التي أرسلت إليهم من السماء بآلته الإعلامية الضخمة، وبأنه السبب الأساسي وراء أي سعادة تصل إليهم. شاهدت العديد من البرامج عن هذا الشعب المسكين، منها برنامج على الـ National Geograhpic، يسرد قصة تطوع احد الأطباء الغربيين في علاج حالات العمى بين الكوريين الشماليين، وقد حرص مخرجو البرنامج من الكوريين بأن يظهروا في النهاية أفراد الشعب الذين تم علاجهم وهو ينحنون أمام صورة القائد العظيم الذي كان السبب في عودة نعمة البصر إليهم، مع انه ليس له ناقة ولا جمل فيما حدث.

استطاعت هذه الأسرة الكارثية التي تعد ابنها القائد العظيم "كيم جونغ إل" إبن السابعة والعشرين عاما، ليحل محل والده هبة السماء "كيم أيل جونغ" نجل القائد العظيم "كيم ايل سونغ" مؤسس كوريا الشمالية، أن تسيطر على كل ما يصل إلى المواطن الكوري من معلومات من خلال التحكم في كل ما يصل إلى المواطن من مواد مسموعة أو مرئية أو مقروءة. من المفارقات المضحكة (المبكية في ذات الوقت)، أن أرسل لي احد أصدقائي على الفيس بوك كليب مصور يصف فرحة الشعب الكوري بفوزه على البرازيل في مسابقة كأس العالم الماضي (1/صفر)، بينما في الحقيقة فريق كوريا الشمالية انهزم (2/1)، وقد شعرت بمرارة عندما قال لي هذا الصديق "لا تستغرب دكتور إذا سمعت أن الكوريين الشماليين يعتقدون أن فريقهم قد فاز بمسابقة كأس العالم".

لم يكن يدور بخلدي وأنا أكتب هذا المقال عن أسرة سونغ في كوريا، أنني سأكتب قريبا عن أسرة كارثية أخرى في العالم. الأسرة الكارثية التي أتحدث عنها اليوم هي أسرة أكثر من كارثية في الواقع، وهي أسرة المخلوع "حسني مبارك"، الذي ينحدر من أسرة متواضعة من "كفر المصيلحة" في محافظة المنوفية، والذي تحول إلى واحد من أثرى أثرياء العالم اليوم من مصدر واحد للأسف الشديد وهو "الفساد".

في تقرير نشرته قناة السي إن إن (شاهد: http://www.youtube.com/watch?v=DGGKFs-GhRs&feature=youtube_gdata_player ) عن ثروة حسني مبارك تم تقدير هذه الثروة بما يتراوح بين 40 مليار إلى 70 مليار دولارا (ملحوظة صغيرة، يبلغ إجمالي ديون مصر الخارجية 36 مليار دولارا، أي أن ديون الدولة اقل من ثروة رئيسها)، لاحظ أنه لا يوجد ملياردير في العالم حاليا تبلغ ثروته المعلنة 70 مليار دولارا، بما فيهم وارن بوفيت أثرى أثرياء العالم، ولكن هناك فرق كبير بين بوفيت ومبارك، هو أنه رغم أن الأول ينحدر أيضا من أسرة متواضعة، إلا انه صنع ثروته من عرق جبينه، بينما صنع مبارك ثروته بذراعه الطويلة، التي لم ترع شرعا ولا شريعة، ولم يتق الله في شعبه الذي كان يئن من الفقر، بينما تتسع استثمارات آل مبارك عبر كافة أنحاء العالم في مجال العقارات في لندن والولايات المتحدة، وفي أرقى محلات الموضة مثل "LV"، و "Tiffany & Co."، وحتى المطاعم مثل "Chillis" وشركات الاتصالات مثل "Vodafone"، فضلا عن الأرصدة النقدية في سويسرا، والقائمة طويلة جدا.

في الوقت الذي كان مبارك يفرض على المستثمرين الأجانب أن يكون هو أو أفراد أسرته شريكا بحصة لا تقل عن 51% في الشركات الأجنبية التي ترغب في الاستثمار في مصر، كان أكثر من نصف مليون مصري يعيشون في المقابر بجوار الموتى، وعدة ملايين من المصريين يعيشون في العشوائيات وهي أشبه بمدن الصفيح في أمريكا اللاتينية.

في الوقت الذي كانت تنمو ثروة أسرة مبارك على نحو صاروخي، كان المواطن المصري الفقير لا يجد ثمن "القطن الطبي أو الشاش أو حتى الأدوية"، التي يطلب منه أن يشتريها على حسابه قبل أن تجرى له أي عملية جراحية في المستشفيات العامة للدولة، ويعيش أكثر من 40% من الشعب المصري تحت خط الفقر (بأقل من دولارين يوميا)، هل لك أن تتخيل أسرة تعيش بدولارين في اليوم، بينما الحاكم لا يستطيع أن يحصر ثروته.

مع زيادة المخاوف بزوال عهد مبارك بسبب تقدمه في السن، وخشية أن يختطفه الموت فجأة ومن ثم يحرم الأسرة من مصدر الضخ في ثرواتها، وهو كرسي الرئاسة، خطرت على بال الأسرة فكرة جهنمية، وهي محاولة الترويج لسيناريو التوريث، من خلال إقناع العديد من القوى الإقليمية، وعلى رأسها إسرائيل، والقوى العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة، بأن أفضل سيناريو لاستقرار الأوضاع في مصر هو توريث كرسي مبارك لابنه جمال، وبحيث تتحول مصر من مملكة أسرة "محمد علي" إلى مملكة أسرة "محمد حسني مبارك"، لكن الله يمهل ولا يهمل.

بعد أن بلغ طغيان هذه الأسرة عنان السماء، وصعود دعوات المصريين عليها ليل نهار، جاء انتقام ربك من فوق سبع سموات، وسخر للأسرة الجهنمية مجموعة من الشبان الصغار العزل، الذين لا يملكون سلاحا يواجهون به آلة البطش الجبارة التي تملكها الأسرة (نحون مليون ونصف عنصر من الشرطة وجهاز الأمن المركزي، والمخابرات السرية، وللأسف الشديد جيش من البلطجية، يستخدمهم النظام لتأديب وترهيب من يريد) سوى حسابات على الفيس بوك والتويتر، وقوة صمود جبارة تتحدى الرصاص الحي بصدورها المفتوحة.

لما قامت مظاهرات يوم الغضب في 25 يناير الماضي، كان من الممكن أن يمتص رأس الأسرة غضب هؤلاء بخطاب صغير يعدهم فيه ببعض الإصلاحات التي تقل عن 10% مما عرضه عليهم لاحقا، ولكن لأن الأسرة غبية، وتعودت على أن تقول لا للشارع وأن تبطش بالناس بأفظع الأساليب، أرسلت الأسرة زبانيتها لهؤلاء الشباب يضربونهم بالعصي وبالأحذية في الشارع وعلى مسمع ومرأى من العالم، فلما لم تفلح معهم هذه الطريقة، أمر الطاغية بإطلاق الرصاص الحي علي شلة "عيال الشارع"، وسقط أكثر من 300 قتيل من شباب في عمر الزهور، فاسقط في أيدي مبارك، الذي تحول إلى قاتل يديه ملطخة بدماء شباب صغار عزل، كل طلباتهم هي أن يحصلوا على حقهم في الحياة بأن يتنفسوا حرية، وهم الذين لم يروا على كرسي الحكم في حياتهم غيره.

لجأ مبارك إلى حيلة جهنمية أخرى، وهي سحب جهاز الأمن بالكامل من الشارع، وإطلاق بلطجيته في الشوارع يقتلون ويسرقون ويحرقون ويعتدون على الناس، حتى يستصرخه الناس طالبين منه أن يحميهم، فكان الرد الشعبي على الطاغية من أروع ما يمكن، وهو أنه إذا كان النظام لا يرغب في حمايتنا، فسوف نتولى نحن المهمة، وتحولت مصر من خلال لجانها الشعبية، بين يوم وليلة إلى أأمن بلد في العالم، حيث سدت كافة المداخل إلى الشوارع، وأصبح لا يدخل إلا من تسمح له اللجان بعد التأكد من هويته، فأسقط في يد الطاغية مرة أخرى.

لما أفلس الطاغية، الذي أعمى الله بصيرته، ونفذت كل حيله، وتصاعد غضب الشارع منه، وتحولت جموع الناس، وليس الشباب المتظاهرين إلى عناصر مناهضة له ولحكمه، خرج على الشارع ليعلن إجراء بعض الإصلاحات، وتعيين نائبا له وتغيير حكومته، ووعده بتغيير الدستور الذي زوره مرتين من قبل حتى يضمن استمرار حكمه حتى ينتقل إلى قبره، وأعلن انه لن يترشح لفترة رئاسية جديدة، مسقطا بذلك سيناريو توريث ابنه، ولسان حاله أنه يقول للناس، مثلما قال بن علي من قبل، "لقد فهمتكم"، ولكن الوقت كان قد فات، وزمن  الفهم انتهى، وحانت ساعة الحساب.

أصبح بين الشارع والطاغية دم، ورفع الشباب سقف مطالبهم برحيل مبارك نفسه، وبدأت الضغوط الدولية على النظام بضرورة التغيير، لأن الشعب يطالب بالتغيير، ولكن الطاغية الذي تعود على أن يعامل شعبه على أنهم مجموعة من العبيد، لم يكن مستعدا لهذا التغيير، وكيف يفعل في ثروة أسرته التي تنتشر عبر عرض البلاد وطولها، انه يحتاج إلى بعض الوقت لتسيل هذه الأصول ونقلها إلى الخارج ومحو كل المستندات التي تدينه وتدين أسرته من وراءه، فأصر على أن يستكمل مدته في الحكم حتى سبتمبر القادم. كان الجميع في غاية الغيظ من الطاغية، ألم يكفه 30 عاما يجثم فوق أنفاس هذه الأمة، لماذا يستقتل في سبيل هذه المائتي يوم الإضافية، إنها كما قلت لكم، المدة التي يحتاج إليها لتصفية أعماله في مصر، مدعيا بأنه ولد وسوف يموت على ارض مصر، مع أنني متأكد من أنه سوف ينتهز أول فرصة تلوح له لمغادرة البلاد هو وأسرته خشية بطش النظم التي سوف تأتي لاحقا بالأسرة عندما يفتح ملف الفساد في مصر.

أروع شباب العالم، كان لهم نداء واحد، وهو الرحيل، وأنه إذا كان مبارك لديه دكتوراه في العناد كما يدعي، فإنهم مصرون على كسر أنفه وإخراجه ذليلا من منصبه، حتى لو كان الثمن أن تسيل الدماء لتغرق شوارع مصر. يوم الجمعة الماضي، حمل الطاغية أخيرا حقائبه وترك منصب الرئاسة مجبرا، بعد أن كان يقاتل في سبيله حتى آخر نفس.

لن تفيد مبارك ملياراته، وأنا متأكد من أن أفضل طعام مسموح به لمبارك حاليا لن يزيد عن كسرة خبز وكوب من الزبادي، بسبب ظروفه الصحية المتأخرة، ولكنه الطمع الذي يسيطر على النفس البشرية، والشيطان الذي يلجم الإنسان ليسوقه إلى موطئ هلاكه. من المؤكد أنه مع استقرار الأوضاع في مصر، وانتخاب رئيس جديد لها على أساس ديمقراطي سوف تكون ملفات الفساد على رأس أولوياته، ومن المؤكد أننا سوف نقرأ ونطلع على حقائق يشيب لها الولدان، من أقسى نظام مر على مصر منذ عهود الفراعنة السحيقة.

أبشركم أنه بتحول مصر إلى نظام ديمقراطي حر، وهي ليس أمامها الآن خيار سوى ذلك، سوف تصبح مصر ماليزيا الشرق الأوسط، أو كوريا العرب، بمواردها الضخمة التي تسرق منذ 30 عاما، وبشبابها الرائع الذي قام بأعظم ثروة في التاريخ، مستخدما أقوى سلاح فتاك عرفته الثورات في العالم، وهو عبارة "سلمية سلمية".