من جديد نجد أنفسنا أمام أزمة مالية جديدة تندلع في بقعة أخرى من بقاع العالم وان كانت أوروبا بدأت تظهر بمظهر المحتكر الأساسي لهذه البقاع، فبعد اليونان أضحت أيرلندا ضيفآ جديدآ في هذا الواقع المؤسف الذي نعيشه بين الفينة والاخرى، قد تكون الأزمة الأيرلندية الآن في طريقها الى الحل خاصة بعد حزم التدخلات الأوروبية والعالمية بهدف السيطرة على النزيف في مراحله الأولى خشية تدمير البقية الباقية من الأعضاء ولنا في قضية ليمان براذرز والتعامل الفاشل للادارة الأمريكية السابقة معه عبرة ومثال لما يمكن أن تكون عليه الاوضاع لو تركت الأمور على عواهنها فما بالنا اليوم ونحن نتحدث عن دولة كاملة بكل مؤسساتها وأجهزتها ونظمها المصرفية خاصة وأن دولة أكبر حجمآ وتأثيرآ كاسبانيا على المحك كذلك البرتغال .
فقد أعلنت المفوضية الأوروبية موافقتها على خطة نقل الديون الرديئة (المشكوك في تحصيلها) لدى البنوك الأيرلندية إلى صندوق خاص تابع للحكومة في أيرلندا بهدف مساعدة هذه البنوك المتعثرة ، وكانت الحكومة الأيرلندية قد أعلنت عن هذه الخطة في سبتمبر الماضي وطلبت موافقة المفوضية الأوروبية عليها ، وشدد مسؤولون أوروبيون على أن قرار المفوضية اليوم غير مرتبط بقرار امس الاول الخاص بمنح أيرلندا حزمة قروض إنقاذ بقيمة 85 مليار يورو (112 مليار دولار) من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي.
في الوقت نفسه فإن قروض الإنقاذ الدولية لأيرلندا مطلوبة لعلاج الأزمة الطاحنة في القطاع المصرفي الأيرلندي ، وتقضي خطة تخليص البنوك من الديون المشكوك في تحصيلها بإنشاء 'وكالة إدارة الأصول الوطنية' الأيرلندية التي سوف تشتري هذه الديون لمساعدة البنوك في إعادة التوازن إلى حساباتها والعودة إلى تحقيق أرباح ، وبالطبع فان أية خطة من هذا النوع تحتاج إلى موافقة المفوضية الأوروبية المعنية بمراقبة أي مساعدات حكومية للمؤسسات الاقتصادية والشركات في دول الاتحاد الأوروبي.
من الضروري التأكيد على أن هذه الخطوات تعد محمودة في حد ذاتها وأن خطوات رد الفعل هذه تمثل أحد الدروس المستفادة من الأزمة التي نعانيها الآن ، الا أن أهم الأمور لا زال غائبآ عن العمل الأوروبي المشترك ولا يمكن فهم غيابه الا من خلال ما يمكن أن نسميه كما سماه المسؤولون الألمان غياب الارادة الحقيقية في تأسيس آلية مستقرة ودائمة وذات طبيعة ديناميكية في الاستجابة للأزمات والمتغيرات التي قد تصيب أية دولة من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بما يهدد بقية دول الاتحاد وبالتالي كيان هذا التنظيم الأوروبي الأساسي لكل أوروبا .
الا أن الصورة ليست قاتمة الى هذه الدرجة في مجال العمل الأوروبي المشترك طالما أننا نتحدث عن نظم سياسية مسؤولة ومنتخبة بشكل ديموقراطي نزيه من قبل شعوبها وتظل مسؤولة أمامها في تحقيق آمالها ومصالحها خاصة وأننا نتحدث عن آلية أساسية يمثل غيابها مؤثرآ سلبيآ وخطيرآ بالغ الضراوة على مصالح الاتحاد واستقرار أعضائه وصولآ الى نشوء خطر حقيقي على وجود الاتحاد الأوروبي ذاته.
هناك مجهودات تبذل على صعيد القيادات المتوسطة في الاتحاد الأوروبي نحو بناء المعايير الأساسية التي سوف تستند اليها آلية الاستقرار الأوروبي خاصة بعد أن اتفق وزراء مالية الاتحاد على تدشين تلك الاتفاقية في 2013 مع تقييمها في 2016 ، مع التأكيد على أنها لا يمكن أن تمثل بديلآ عن سعي كل حكومة أوروبية الى الالتزام بمعايير ماستريخت والحفاظ على مستويات العجز في موازاناتها العمومية.
وسترتكز آلية الاستقرار الأوروبي على آلية الاستقرار المالي الأوروبي المعمول بها حاليا والتي تقدم التمويل لدول منطقة اليورو التي توصد في وجهها أبواب السوق لكن بشروط صارمة ، أي أنها تظل تالية للأسواق المالية ستتضمن كل إصدارات السندات الجديدة في منطقة اليورو اعتبارا من أول تموز 2013 شرطا يلزم دائني الأقلية بما توافق عليه أغلبية حملة السندات عند اعادة هيكلة الديون السيادية ، وقد قالت باريس إن الأغلبية المطلوبة للتوصل إلى اتفاق ستكون في حدود 75 إلى 80 بالمئة من حائزي السندات وسيصاغ هذا النوع من الشروط على غرار المعمول به في الولايات المتحدة وبريطانيا.
وقد يصبح لزامآ على مستثمري القطاع الخاص تعليق سداد الدين أو تأجيل مدفوعات الفائدة أو خفض الفائدة أو حتى خفض أصل الدين المستحق لهم على الحكومة ذات الصلة ، وستصبح القروض التي تقدمها تلك الآلية لها الأولوية في السداد بعد قروض صندوق النقد الدولي . وسيبلغ حجم هذه الآلية ما يفوق ال 440 مليار يورو.
وفي طار عمل تلك الآلية وبغية تحقيقها لعملها على الوجه الأمثل فان القائمين على ادارتها يضعون في الاعتبار ضرورة التفرقة بين نوعين من الأزمات:
أولآ : أزمة سيولة
فان كانت الدولة المعنية قادرة على معالجة وسداد التزاماتها ولكنها تواجه مشاكل مؤقتة في توفير السيولة فان تلك الآلية ستقدم الاموال الى هذا البلد بالاضافة الى تشجيع المستثمرين على شراء السندات الحكومية الخاصة به .
ثانيآ : أزمة ديون
أما اذا كان البلد المعني يواجه مشكلة هيكلية تتعلق بعدم قدرته على سداد ديونه فانه سيتم دراسة حالته وتقديم يد العون له واجباره على اجراء اصلاحات هيكلية تعالج هذه المسألة ، بالاضافة الى التفاوض مع الدائنين من القطاع الخاص على اعادة جدولة أو التنازل عن جزء من ديونهم المستحقة لهذا البلد.
لا شك ان الامر الأخير سيزيد من تكلفة الاقتراض حيث سيجنح المستثمرون الى وضع علاوة مخاطرة على ما يقدمونه من اموال الى الدول المقترضة مما يزيد من عبء سداد وادارة الدين العام ، ولكنه من ناحية اخرى سوف يساهم في اغلاق الباب أمام الرفع الغير الحصيف للانفاق العام في ميزانيات الدول الذي وصل الى حد ما يمكن ان نسميه الاستهتار المالي وتقدم اليونان ومآلها اليوم خير دليل على ذلك ، وذلك كان يعد أحد المثالب الرئيسة لعصر التمويل الرخيص الذي تسبب في الاساس على كافة المستويات الخاصة والعامة في اندلاع نيران الأزمة المالية التي نعاني من لهيبها اليوم.
يعطيك العافية .... مقالاتك جدا رائعه