ذكرنا في الأسبوع الماضي أن لجنة توقيتات دورة الأعمال بالمعهد القومي للبحوث الاقتصادية أعلنت أن الكساد الأخير الذي مرت به الولايات المتحدة قد انتهى من الناحية الرسمية في يونيو 2009، ويفترض بالتالي أن الاقتصاد الأمريكي بعد الوصول إلى نقطة قاع النمو في هذا الشهر قد بدأ بالفعل الدخول في مرحلة التوسع وبالتالي الخروج من حالة الكساد، ومن المؤكد أن هذا التحول في اتجاه الكساد يعكس أساسا جهود الإنقاذ وبرامج التحفيز المالي والنقدي التي اتبعتها الولايات المتحدة بشكل مكثف في هذه الأزمة. فهل انتهى الكساد الحالي في الولايات المتحدة بالفعل؟
تنبغي الإشارة أولا إلى أن إعلان المعهد القومي للبحوث الاقتصادية عن انتهاء الكساد قد أثار دهشة الكثير من المراقبين والذين تشككوا في مدى صحة أو واقعية هذه الخلاصة التي توصل إليها. فمن الناحية الواقعية بعد أن بلغ الاقتصاد الأمريكي قاع الكساد، واصلت معدلات البطالة ارتفاعها المستمر، وفقد سوق العمل الأمريكي حوالي مليون فرص عمل في الأربعة أشهر التي تلت قاع النمو، وذلك نظرا للفجوة الزمنية التي غالبا ما تكون بين قاع النمو وقاع التوظف، ثم شهد معدل البطالة بعد ذلك تحسنا بطيئا جدا، وهو ما يستدل به البعض، على أن الاقتصاد الأمريكي ما زال في حالة كساد.
الواقع أن هناك تباين واضح في الوقت الحالي في وجهات النظر حول أوضاع الاقتصاد الأمريكي وآفاق النمو المتوقعة فيه، ففريق يرجح احتمال حدوث كساد أو تراجع مزدوج، ويستدل على ذلك باستمرار ارتفاع معدلات البطالة واستمرار ضغوط سوق العمل، فضلا عن تراجع معدلات النمو المقدرة في المراجعات المستمرة التي يعلنها المكتب الأمريكي للتحليل الاقتصادي، وفريق آخر يرى أن الاقتصاد الأمريكي قد خرج بالفعل من الكساد وأنه بدأ يواصل عملية التوسع، وأن المسألة مسألة وقت قبل أن يعلن عن خروج الاقتصاد الأمريكي نهائيا من الأزمة الحالية.
الجمهور الأمريكي متخوف من آفاق عملية استعاد النشاط في الفترة القادمة، ومسوحات الرأي العام تشير إلى ميل الجمهور إلى الاعتقاد بارتفاع مخاطر التراجع المزدوج، وأن التوسع الحالي سوف يستمر لفترة قصيرة جدا، قبل أن يدخل الاقتصاد مرة أخرى في الكساد التالي، والذي يعتقد البعض أنه ربما يكون أسوأ من الكساد الأول، أو أكثر حدة منه. ولا أدري على أي أسس يتم إطلاق مثل هذه الأحكام، أو تكوين هذه الآراء القاطعة.
حتى لا يكون تحليلنا غير قائم على أساس علمي، أو مجرد تكهنات لا تسندها أرقام من الواقع الاقتصادي الأمريكي، دعونا نستعرض الأداء الاقتصادي على المستوى الكلي، منذ أن بلغ الاقتصاد الأمريكي قاع النمو في يونيو 2009. البيانات المنشورة عن أداء النمو في الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثالث من العام الماضي تشير إلى تحقيق الاقتصاد الأمريكي لمعدل نمو موجب بلغ 1.6%، وارتفع هذا المعدل بشكل واضح في الربع الرابع من 2009، حيث بلغ معدل النمو 5%. أدى تحقيق مثل هذه المعدلات المرتفعة إلى بدء الحديث عن الخروج من الكساد وانتهاء الأزمة، وتم تعديل سيناريوهات النمو المتوقع على المستوى العالمي إلى أعلى استنادا إلى هذه النتائج، وكذلك تهيئة العالم للخروج من الأزمة في 2010. غير أنه مع بداية العام أخذت معدلات النمو الحقيقي في التراجع شيئا فشيئا، ففي الربع الأول من هذا العام انخفض معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (بأسعار 2005) إلى 3.7%، كما كشفت مراجعات معدلات النمو في الناتج المحلي في الربع الثاني من هذا العام عن تحقيق معدلات نمو اقل بكثير من تلك التي تم الإعلان عنها مبدئيا، حيث انخفض معدل النمو إلى 1.7%.
من الناحية الفنية تشير هذه البيانات التي بين أيدينا إلى تراجع معدل النمو، أو بالأحرى فقدان الاقتصاد الأمريكي لبعض العزم الذي اكتسبه نتيجة برامج التحفيز، مما جعل معدلات النمو تتراجع إلى النحو الذي جعل البعض يعتقد أن الاتجاهات الحالية للنمو في ظل المستويات المرتفعة للبطالة تهدد بدخول الاقتصاد الأمريكي حالة الكساد مرة أخرى.
غير أن البيانات السابقة تشير إلى أن النمو الذي يحققه الاقتصاد الأمريكي حتى هذه اللحظة ما زال موجبا، وما زالت مقاومة الاقتصاد الأمريكي لضغوط التراجع المزدوج قائمة، وان كانت ضعيفة، ومن الناحية الواقعية فإن تراجع معدلات النمو لم يصل بعد إلى المستوى الذي يخشى معه انزلاق الاقتصاد الأمريكي في الكساد مرة أخرى، ومازال من المبكر الحديث عن حدوث تراجع مزدوج حتى هذه اللحظة. صحيح ان معدلات النمو تتراجع، ولكنها ما زالت موجبة، وما زلنا في انتظار النتائج التي سيعلن عنها مكتب التحليل الاقتصادي الأمريكي عن معدلات النمو في الربع الثالث من هذا العام، حتى تتدعم الاتجاهات الحالية لتراجع معدلات النمو مدعومة بالتوقعات التشاؤمية حول المستقبل، أو تنعكس تلك الاتجاهات بارتفاع معدلات النمو مستفيدة من التوقعات المستندة إلى إصرار الحكومة الأمريكية على استمرار توفير العزم الكافي لرفع معدلات النمو بأي ثمن، بما في ذلك خطة التيسير الكمي الثانية، ومدى تأثير ذلك على توقعات وقرارات قطاع الأعمال الخاص.
هذا عن الواقع الحالي، ولكن ماذا عن توقعات المستقبل؟ تنبغي الإشارة إلى أن التوقعات تتدعم حاليا باستمرار النمو في الجزء المتبقي من هذا العام عند معدل 1.6%، خصوصا وأن الاحتياطي الفدرالي لم يبدأ بعد عملية رفع معدلات الفائدة، وأنه ربما يبدأ تسارع معدل النمو في 2011، طالما أن الاحتياطي الفدرالي لم يرفع معدلات الفائدة، والواقع أنه ليس هناك دلائل عن عزمه على القيام بذلك. من ناحية أخرى فإن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أشارت إلى أن استعادة النشاط الاقتصادي على المستوى العالمي تتراجع بصورة أسرع مما مضى إلى الحد الذي دعاها إلى مراجعة توقعاتها حول النمو العالمي، خصوصا بالنسبة لاقتصاديات مجموعة الدول السبع الرائدة اقتصاديا في العالم. غير أن توقعات المنظمة تشير إلى أن عودة العالم لكساد أمر غير محتمل، على الرغم من استمرار حالة عدم التأكد عند مستويات مرتفعة حاليا، بسبب مزيج من العوامل المرتبطة بتطورات المؤشرات الاقتصادية على المستوى الكلي، وأن معدلات النمو المتوقعة في 2011 لمجموعة الدول السبع تمت مراجعتها وتخفيضها إلى 1.5% بدلا من 1.75%.
التوقعات حتى الآن تدور إذن على أن الاقتصاد الأمريكي سوف يستمر في تحقيق معدلات نمو منخفضة، ولكنها موجبة، ومجموعة الدول السبع، بما فيها الولايات المتحدة، سوف تستمر أيضا في تحقيق معدلات نمو موجبة، وان كانت منخفضة. إذا كان الوضع كذلك فإن احتمالات عودة الكساد مرة أخرى تكون مستبعدة إذن، وأن التراجع المزدوج ربما يختفي من الصورة المرسومة حاليا حول مستقبل عملية التوسع الاقتصادي في الجزء المتبقي من هذا العام والعام القادم، وفقا لهذه التوقعات. الاقتصاد الأمريكي ما زال حتى هذه اللحظة يقف على قدميه في مرحلة التوسع، وإن كان ذلك في ظل إشارات قوية عن ضعف معدلات النمو، أو التوسع، والإشارات التي تأتينا هي بشكل عام مختلطة، بعضها ايجابي والبعض الآخر سلبي، مما يعكس ضعف عمليات استعادة النشاط بشكل عام، ولكن ما يجب التأكيد عليه هو أنه على الرغم من ضعف معدلات النمو بعد الخروج من أكبر حالات الكساد التي مرت على الاقتصاد الأمريكي كثافة في السبعين عاما الماضية، إلا أن الاقتصاد لم يدخل بعد في عملية تراجع آخر، أو لم يبدأ، على الأقل من الناحية الرسمية، كساد جديد في الولايات المتحدة، وما زالت الشروط الأساسية للخروج بشكل نهائي من الأزمة في 2011، قائمة حتى الآن، كما يقول بن برنانكي رئيس الاحتياطي الفدرالي، مما يعكس تزايد الثقة باحتمالات الخروج من الأزمة في هذا العام.
أما عن اتجاهات البطالة فلابد من الإشارة إلى أنه من الطبيعي أن تستمر معدلات البطالة مرتفعة بعد بلوغ قاع النمو، والدلائل التاريخية تشير، مرة أخرى، إلى ذلك. على سبيل المثال في كساد 1992 استمرت معدلات البطالة مرتفعة لمدة 11 شهرا بعد إعلان انتهاء الكساد رسميا من جانب المعهد القومي للبحوث الاقتصادية، أما في كساد 2002، فقد استمرت معدلات البطالة مرتفعة لمدة 20 شهرا بعد إعلان انتهاء الكساد من الناحية الرسمية. بل بالعودة إلى كافة حالات الكساد التي مرت على الاقتصاد الأمريكي في أعقاب الحرب العالمية الثانية وجد أن استمرار المعدلات المرتفعة للبطالة بعد بلوغ قاع النمو هو أمر طبيعي.
خلاصة التحليل السابق هي أن كساد 2007-2009 قد انتهى من الناحية الرسمية، ولكن عملية استعادة النشاط الاقتصادي إلى مستوياته الطبيعية ما زالت ضعيفة أو ربما يحيط بها الكثير من المخاطر. ولكن ماذا تحتاج الولايات المتحدة لتعزيز عملية استعادة النشاط الاقتصادي؟ الإجابة هي مزيد من التحفيز للاقتصاد لخلق العزم اللازم لدفع القطاع الخاص نحو الاستثمار واستمرار عملية النمو، هذه المرة سوف يكون التحفيز نقديا، وذلك بطبع المزيد من الدولار، أو ما يطلق عليه خطة التيسير الكمي الثانية، للحفاظ على المستهدفات الحالية لمعدلات الفائدة عند مستويات قريبة من الصفر، ولتحفيز عمليات الائتمان للقطاع الخاص، فمازال قطاع الأعمال الخاص غير قادر على خلق فرص العمل الكافية للتخلص من ضغوط معدلات البطالة المرتفعة.
غير أن الأمر الذي ينبغي التأكيد عليه هو أنه ما لم يبدأ قطاع الأعمال الخاص في ضخ الكميات اللازمة من الاستثمار وخلق فرص التوظف عند مستوياتها الطبيعية، سيظل الحديث مستمرا عن احتمالات التراجع المزدوج، والمشكلة الأساسية هي أن التدخل الحكومي على أهميته، ليس كافيا لاستدامة النمو، ذلك أن عملية استعادة النشاط لا تبدأ من الناحية الحقيقية إلا من خلال استثمارات قطاع الأعمال الخاص.
اما تري يادكتورمحمد أن الاقتصاد الأمريكي لا يمكن أن يعود لمعدلاته السابقة بسبب أن من أبرز محركات الاقتصاد الامريكي هو الاستهلاك المحلي والذي كان معتمدا على استدانة الشعب الامريكي أموال لا يستطيع تسديدها (ينفق من مال لا يملكه) وأن هذه الحال كما أفهم هي سبب الأزمة الحقيقي وأن هذه الحال من الصعب أن تعود وأن يسمح العالم بعودتها آمل منكم التعليق يا دكتور