المعادن النادرة في زمن ترامب: القوة الاقتصادية تبدأ من باطن الأرض

13/07/2025 0
محمود جمال سعيد

في عالم تعاد فيه صياغة موازين القوى من جديد، لم تعد الحروب تُخاض فقط بالسلاح والمال، بل صارت تُحسم أيضًا بالسيطرة على الموارد الدقيقة التي تحرّك عجلة الاقتصاد الحديث. وبين هذه الموارد، برزت المعادن النادرة كأحد أكثر عناصر النفوذ حساسية، ليس فقط لارتباطها المباشر بصناعات التكنولوجيا والدفاع، بل لأنها تمثل قاعدة القوة في سباق الأمم نحو الهيمنة المستقبلية. ومن هنا، جاء تركيز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عبر شعاره السابق "أمريكا أولاً"، على بناء استراتيجية شاملة لإعادة رسم خريطة السيطرة على هذه الثروات، في إطار مواجهته المفتوحة مع الصين، وسعيه المتجدد لتقليص النفوذ الروسي في أوكرانيا، وتحقيق مكاسب اقتصادية تعيد تعريف استقلال الولايات المتحدة الاقتصادي.

لم تكن تحركات ترامب عشوائية، بل انطلقت من قناعة اقتصادية محورية تقول إن الاعتماد على الخارج في المواد الأساسية يُقوّض السيادة. وقد جاءت أولى خطواته بقرارات تنفيذية تسرّع الاستثمار في التعدين المحلي، ما رفع حجم التدفقات الاستثمارية في هذا القطاع بنسبة تجاوزت 18٪ حتى منتصف عام 2025، وفقًا لبيانات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية. ورغم أن هذه الزيادة لم تُفضِ إلى الاكتفاء الذاتي الكامل، بسبب العقبات التنظيمية والبيئية، فإنها أرست أرضية صلبة لفك الارتباط تدريجيًا مع الأسواق التي تُعدّ الصين في مقدمتها. الصين، التي تُنتج أكثر من 80٪ من المعادن النادرة في العالم، كانت دائمًا في مرمى الاستراتيجية الأمريكية الجديدة. إذ اتخذ ترامب من الحرب التجارية أداة للضغط، وفرض رسومًا جمركية متتالية بهدف الحد من الاعتماد الأمريكي على واردات المعادن من بكين. لكن الرد الصيني لم يتأخر، حيث قامت بكين بتقليص صادراتها من عناصر رئيسية مثل النيوديميوم والديسبروسيوم، مما تسبب في صعود الأسعار بنسب بلغت 30٪ في بعض المعادن خلال عام 2024. هذا التصعيد دفع بالولايات المتحدة إلى تنويع مصادرها، من خلال شراكات استراتيجية مع دول مثل أستراليا وكندا، وفتح قنوات جديدة للاستيراد من البرازيل وفيتنام، ما أدى إلى زيادة واردات هذه المعادن من خارج الصين بنسبة 25٪.

وفي مشهد موازٍ، لم يغفل ترامب أهمية أوكرانيا كخزان للمعادن الاستراتيجية. فقد سعت إدارته قبل وأثناء الحرب الروسية الأوكرانية إلى تأمين اتفاقيات استثمارية تضمن للشركات الأمريكية حصة من معادن مثل التيتانيوم والليثيوم، الضروريين لصناعة البطاريات والطائرات العسكرية. لكن السيطرة الروسية على مناطق التعدين في شرقي أوكرانيا أوقفت هذه الطموحات مؤقتًا، ما دفع واشنطن إلى تسريع بحثها عن بدائل في أفريقيا وأمريكا الجنوبية، لا سيما في دول مثل زامبيا وتشيلي، وفقًا لتقرير المجلس الأطلسي الصادر في يوليو الجاري. وتؤكد تقارير المجلس أن روسيا عززت نفوذها في هذه المناطق بالتوازي، ما يُنذر بموجة جديدة من التنافس الجيوسياسي بأدوات اقتصادية هذه المرة. ما سعى ترامب إلى تحقيقه لم يكن مجرد تأمين المواد الخام، بل إعادة تشكيل العمق الاقتصادي الأمريكي على قاعدة الاستقلال الكامل، بما يخدم الصناعات التكنولوجية والعسكرية. فقد نجحت هذه السياسات في تقليص الاعتماد على الصين في استيراد المعادن النادرة من 80٪ إلى 65٪ فقط، بحسب بيانات صندوق النقد الدولي المحدثة في يوليو 2025. كما أظهر تقرير وزارة العمل الأمريكية أن القطاعات المرتبطة باستخراج وتدوير المعادن أضافت أكثر من 150 ألف وظيفة منذ 2020، ما يعكس نجاحًا في الربط بين الاقتصاد والبعد الاجتماعي لسياسة ترامب.

لكن النجاح لم يكن كاملاً، إذ واجهت استراتيجية "أمريكا أولاً" تحديات جدية، أبرزها هشاشة بعض الحلفاء الجدد الذين لا يمتلكون الاستقرار السياسي، مثل الكونغو الديمقراطية، ما يُعرّض سلاسل التوريد للخطر، إلى جانب الضغوط البيئية المتصاعدة من منظمات المجتمع المدني، والتي ترى في التوسع في التعدين تهديدًا مباشرًا للأنظمة البيئية. وفي الوقت ذاته، تواصل الصين تمددها في أفريقيا عبر عقود طويلة الأجل مع حكومات غنية بالمعادن، مستخدمة أدوات تمويلية لا تستطيع واشنطن منافستها بنفس المرونة. في سياق هذه التحولات، تُشير مؤسسة بروكنغز في تقريرها الصادر في يونيو الماضي، إلى أن اعتماد الاقتصاد العالمي على عدد محدود من اللاعبين في سوق المعادن النادرة يشكل مخاطرة استراتيجية، ما يبرر التوجه نحو بناء تحالفات طويلة الأجل على أساس تقني وتبادلي. وهو ما بدأت واشنطن في تطبيقه من خلال تمويل مشاريع إعادة التدوير بقيمة تجاوزت 500 مليون دولار، تُتوقع أن تغطي ما يصل إلى 15٪ من الاحتياجات الأمريكية بحلول 2030، وفقًا لمركز أبحاث الطاقة الخضراء.

في المحصلة، فإن معادن اليوم تُحدّد من يملك مفاتيح الغد. ورؤية ترامب في هذا المجال، رغم كل ما يُثار حولها من جدل، أعادت طرح سؤال جوهري: هل يستطيع الاقتصاد الحديث تحقيق الاستقلال في ظل شبكة سلاسل التوريد العالمية المعقدة؟ أم أن من يسيطر على الموارد يفرض شروطه على من يستهلكها؟. وفي هذا السياق، يبرز قول مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في تقريره الصادر يوليو 2025: "من يملك المعادن النادرة يملك مفاتيح القوة الاقتصادية والتفوق العسكري في القرن الحادي والعشرين". وهذه العبارة تلخص كل ما سعى إليه ترامب، وتفتح الباب أمام سباق طويل الأمد لن تكون فيه المعادن مجرد سلعة، بل أداة للهيمنة.