أعلنت لجنة توقيتات دورات الأعمال في المكتب القومي للبحوث الاقتصادية National Bureau of Economic Research NBER في الولايات المتحدة، والمسؤولة عن تحديد توقيت بدء المراحل المختلفة في دورات الأعمال التي تواجهها الولايات المتحدة، أن الاقتصاد الأمريكي قد بلغ في حزيران (يونيو) 2009 نقطة قاع الدورة الاقتصادية الحالية Trough. ويعني بلوغ قاع الدورة، أن الكساد الحالي الذي بدأ في كانون الأول (ديسمبر) 2007 في الولايات المتحدة قد انتهى بالفعل، وأن الاقتصاد الأمريكي قد أخذ في مرحلة التعافي بدءا من هذا الشهر، ومن ثم يفترض أن الاقتصاد الأمريكي يمر حاليا بمرحلة توسع في النشاط الاقتصادي، وإذا ما كان هذا الإعلان صحيحا، فإن الاقتصاد الأمريكي سيكون قد قضى بهذا الشكل نحو 18 شهرا في حالة كساد، أو تراجع مستمر في مستويات النشاط الاقتصادي، وهو ما يعد وفقا للمعايير التاريخية، أطول كساد مر على الاقتصاد الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن.
وربما يكون من المناسب إطلاع القارئ غير المتخصص عن المقصود بدورة الأعمال Business cycle ومراحلها؛ حتى يتمكن من أن يتابع محتويات المقال بشكل جيد.
دورة الأعمال Business cycle في أي اقتصاد هي موجات الصعود والهبوط في مستويات النشاط الاقتصادي، مقارنة باتجاهه العام،. وتتكون دورة الأعمال الواحدة من مرحلتين ونقطتي تحول أو انعكاس، ونقطتي التحول هما نقطة القمة peak التي تشير إلى بلوغ النشاط الاقتصادي أقصى مستوياته، ليبدأ النشاط بعد ذلك في الانحسار والتراجع، ومن ثم بداية مرحلة كساد جديدة في الاقتصاد، ونقطة القاع trough، التي تشير إلى بلوغ النشاط الاقتصادي أدنى مستوياته خلال الدورة ليبدأ بعد ذلك في التوسع، ومن ثم بداية مرحلة رواج جديدة في الاقتصاد.
أما المرحلتان فهما مرحلة التوسع أو استعادة النشاط، وهي المرحلة الزمنية التي تفصل بين نقطة القاع ونقطة القمة في الدورة، وخلال هذه المرحلة تأخذ معدلات النمو الاقتصادي في التزايد وترتفع مستويات التوظف وتنخفض تبعا لذلك معدلات البطالة، وتأخذ الأسعار في الارتفاع، وعندما نصل إلى نقطة القمة نكون قد بلغنا نهاية مرحلة التوسع في النشاط الاقتصادي، ليبدأ بالتالي انعكاس اتجاه النشاط الاقتصادي من التوسع إلى الانحسار أو الكساد، وهو المرحلة الزمنية بين القمة والقاع، وخلال هذه المرحلة يحدث تراجع جوهري في معدلات النمو الاقتصادي، وتنخفض مستويات النشاط الاقتصادي بصورة واضحة، وتبدأ معدلات التوظف في الانخفاض ومعدلات البطالة في الارتفاع، ويميل معدل التضخم إلى التراجع، وعندما نصل إلى نقطة القاع نكون قد بلغنا قاع الدورة أو نهاية الكساد؛ ليحدث بعد ذلك انعكاس في اتجاه النشاط نحو التوسع، وهكذا.
وليس هناك مدى زمني محدد تستغرقه كل مرحلة من هذه المراحل، غير أنه يلاحظ أن المدى الزمني الذي يستغرقه الرواج غالبا ما يمتد لسنوات عدة، بينما يكون المدى الزمني الذي يستغرقه الكساد أقل بكثير، حيث يحسب غالبا بالأشهر؛ وذلك بسبب التدخل الحكومي المكثف الذي يعقب انطلاق مرحلة الكساد، من خلال استخدام أدوات السياسة المختلفة بهدف رفع معدلات النمو، ومن ثم مستويات التوظف، ومكافحة البطالة.
وخلال المدى الزمني لمرحلتي الكساد أو التوسع قد يحدث انعكاس مؤقت في اتجاهات النمو، على سبيل المثال أثناء مرحلة الكساد قد يحدث بعض التوسع وارتفاع في معدلات النمو، غير أن ذلك لا يستمر سوى لفترة قصيرة، ثم يليه استمرار في التراجع أو الكساد، وخلال مرحلة التوسع قد يحدث تراجع قصير الأمد يليه استمرار في التوسع، وهكذا؛ لذلك لا بد من اتخاذ الحيطة والحذر اللازمين عند الحكم على اتجاهات النشاط الاقتصادي خلال المراحل المختلفة للدورة.
بشكل عام، غالبا ما يهتم صانع السياسة الاقتصادية بالكساد بصورة أكبر من الرواج، نظرا لخطورة الآثار المصاحبة للأول، والمشكلات المترتبة عليه، بصفة خاصة مشكلة البطالة، التي ينظر إليها على أنها أخطر المشاكل الاقتصادية على الإطلاق، والكساد هو تراجع في مستويات النشاط الاقتصادي ينتشر في الدولة، وتختلف مدته حسب درجة حدة الكساد، وغالبا ما يعبر عن الكساد بتحليل سلوك بعض المؤشرات مثل معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، والدخل الحقيقي، ومستويات التوظف، والإنتاج الصناعي، ومبيعات الجملة والتجزئة، وعندما يصل الاقتصاد إلى قاع الكساد تصل هذه المؤشرات إلى حدودها الدنيا، وهو ما يشير إلى نهاية مرحلة التراجع في معدلات النمو، وبداية مرحلة التوسع في النشاط الاقتصادي، وغالبا ما تكون مستويات النشاط الاقتصادي أقل من معدلاتها الطبيعية خلال مرحلة التراجع، وكذلك أيضا في بدايات مرحلة التوسع في النشاط.
ويقصد بالنشاط الاقتصادي المؤشرات التي تعبر عن الأداء الاقتصادي الكلي مثل معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، ومعدلات النمو في الدخل الحقيقي، ومعدلات التوظف في الاقتصاد، ومعدلات البطالة .. إلخ. غير أن المعهد القومي للبحوث الاقتصادية قد يلجأ إلى استخدام بعض المؤشرات القطاعية المساندة، مثل الرقم القياسي للإنتاج الصناعي، أو إجمالي المبيعات، حيث تساعد مثل هذه المؤشرات القطاعية في الحكم على إذا ما كان النشاط الاقتصادي على المستوى الكلي قد بلغ القمة أو القاع، خصوصا إذا ما تضاربت المؤشرات المتاحة عن الأداء الاقتصادي الكلي.
ومن الناحية الزمنية يتبنى المعهد القومي للبحوث الاقتصادية تعريفا محددا للكساد، فالكساد هو تراجع في معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي لربعي سنة متتاليين (أي لستة أشهر متتالية كحد أدنى) أو أكثر، وبالنسبة للكساد الأخير الذي شهدته الولايات المتحدة، فقد تراجع معدل نمو الناتج والدخل المحلي الإجمالي لمدة ستة أرباع سنة متتالية، أي لمدة سنة ونصف السنة، كما سبقت الإشارة.
غير أن الحكم على مدى انعكاس اتجاهات النشاط الاقتصادي من عدمه يرتكز أيضا على مجموعة من المؤشرات الشهرية، وتكون مهمة هذه المؤشرات الشهرية في أنها ترسل إشارات عن اتجاهات النمو، غير أن المشكلة في هذه المؤشرات الشهرية أنها قد ترسل إشارات صحيحة أو زائفة، أي مضللة، كما يمكن أن ترسل هذه المؤشرات إشارات مختلطة بين مؤشري النمو في الناتج ومعدل التوظف. فقد تشير المؤشرات إلى بلوغ قاع النمو في النشاط الاقتصادي، بينما يستمر معدل التوظف في الانخفاض، والعكس. على سبيل المثال في الكساد الحالي يعرف مكتب البحوث الاقتصادية يونيو 2009 على أنه قاع النمو، الذي يسبق قاع التوظف بنحو ستة أشهر؛ ولذلك يتم اختيار النقطة الزمنية للقاع أو النقطة الزمنية للقمة استنادا إلى إشارات واضحة على حدوث مثل هذه التحولات في النشاط الاقتصادي أو في مستويات التوظف، وإن كانت معظم التوقيتات التي يتم الإعلان عنها ترتكز على أساس مؤشرات النمو في الناتج أكثر من مؤشرات معدل التوظف.
لتتبع تطورات دورة الأعمال، يهتم المعهد القومي للبحوث الاقتصادية بتحديد توقيتات نقاط القمة والقاع فقط، باعتبار أن الفترات الزمنية التي تفصل بينهما تمثل مراحل الدورة، على النحو الذي سبقت الإشارة إليها أعلاه، ويعد أقسى كساد مر على الاقتصاد الأمريكي هو الركود الذي عانت منه الولايات المتحدة خلال فترة الكساد العالمي الكبير. فوفقا للمعهد القومي للبحوث الاقتصادية تراجع الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة بين 1929 إلى 1933 بنسبة 27 في المائة، أي بنحو خمس أضعاف تراجع معدلات النمو في أسوأ كساد مر على الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية؛ ولذلك يطلق لفظ الكساد الكبير أو العظيم على الفترة من آب (أغسطس) 1929 إلى آذار (مارس) 1933.
على أنه من الممكن أن تشير توقيتات المعهد القومي للبحوث الاقتصادية إلى انتهاء مرحلة الكساد، ثم يعاود التراجع في النشاط الاقتصادي أو الكساد الكرة مرة أخرى، وهو ما يطلق عليه التراجع المزدوج Double dip، حيث يمر الاقتصاد بفترتي تراجع في النشاط يمكن أن يشكلا كسادين منفصلين، أو جزءا من الكساد نفسه؛ ولذلك يعتمد الحكم على وجود تراجع مزدوج من عدمه، بالتالي على طول فترة التوسع التي ستلي القاع الأول للكساد، أو قوة عملية استعادة النشاط بعد بلوغ نقطة القاع، ولا توجد لدى المعهد صيغ رياضية ثابتة وواضحة لتوقيتات ظاهرة التراجع المزدوج، نظرا لأنها نادرة الحدوث، وبدلا من ذلك يتم الحكم على وجود تراجع مزدوج من عدمه من خلال اللجوء إلى الأسس القائمة على الحكم الشخصي لخبراء المعهد، واستنادا إلى خلفياتهم في متابعة سلوك الكساد.
ويتبنى المعهد القومي للبحوث الاقتصادية مدخلا متحفظا في الإعلان عن توقيتات نقاط التحول في دورة الأعمال بهدف الاطمئنان إلى توافر جميع المؤشرات التي تؤكد حدوث نقطة التحول في اتجاه النشاط الاقتصادي، ثم النظر مرة أخرى إلى الفترة التي مضت على بدء الكساد الحالي حتى الشهر الذي وصل فيه الاقتصاد إلى القاع، ثم بدأ في النمو بعد ذلك مرة أخرى، ومن ثم الحكم على إذا ما كان بدء التوسع في النشاط الاقتصادي هو بالفعل تحولا حقيقيا في اتجاه النشاط الاقتصادي، ومن ثم خروج الاقتصاد بالفعل من حالة الكساد، أم أنه مجرد اضطراب لنمط التراجع في مستويات النشاط أو النمو الاقتصادي، ومن ثم استمرار عودة التراجع في مستويات النشاط بعد ذلك، وقد يحدث أن تخطئ أحكام المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية حول توقيتات الدورة، لكن لا بد من الإشارة إلى أنه نادرا ما يحدث ذلك.
الإعلان الذي قام به المكتب القومي للبحوث الاقتصادية هذا الشهر عن بلوغ الاقتصاد الأمريكي لنقطة القاع في الكساد الحالي في حزيران (يونيو) 2009، يعني أن الكساد، من الناحية الرسمية، قد انتهى في الولايات المتحدة، وأن أي تراجع في مستويات النشاط الاقتصادي يحدث في المستقبل لا يعد امتدادا للكساد الحالي الذي بدأ في كانون الأول (ديسمبر) 2007، وإنما يعد بداية لكساد جديد. غير أنه ينبغي الإشارة إلى حقيقة أن إعلان المعهد القومي للبحوث الاقتصادية قد اقتصر على ذكر موعد توقيت انتهاء الكساد، لكنه لم يتناول بالتحليل مسار الأوضاع الاقتصادية بعد هذا التوقيت في حزيران (يونيو) 2009. من الناحية الفعلية لكي ينتهي الكساد لا بد وأن تكون الأوضاع الاقتصادية على الأرض تسير بشكل مناسب وبصورة تؤكد أن الاقتصاد قد عاد بالفعل إلى طاقته الإنتاجية الطبيعية قبل الأزمة، ومن ثم ارتفعت معدلات النمو والتشغيل وتقلصت معدلات البطالة على نحو واضح مقارنة بالأوضاع في مرحلة الكساد.
البعض يعتبر أن استمرار معدلات البطالة في الولايات المتحدة عند مستويات مرتفعة لا يعد إشارة على انتهاء الكساد، لكن لا بد من الإشارة إلى أنه من الناحية الفعلية من الممكن أن يتم إعلان الوصول إلى نقطة القاع، ومع ذلك يستمر معدل البطالة في الارتفاع أيضا، على سبيل المثال قام المعهد القومي للبحوث الاقتصادية بإعلان أن آذار (مارس) 1991 هو قاع الكساد الذي حدث في تلك الفترة، غير أن معدلات البطالة قد استمرت في الارتفاع لمدة 15 شهرا متتالية لاحقا. كذلك فإنه في الكساد الحالي تم إعلان أيار (مايو) 2009، على أنه نقطة قاع النمو كان في أيار (مايو) 2009 في الوقت الذي استمرت فيه البطالة في الارتفاع حتى بلغت القاع في تشرين الأول (أكتوبر) 2009، وهو ما يعني أن هناك نحو أربعة أشهر فترة تأخير بين نقطتي التحول، بل إن هناك مؤشرات على ارتفاعها بشكل طفيف أخيرا.
ولكن السؤال المهم هو هل فعلا انتهى الكساد في الولايات المتحد، أم أنه ما زال من المبكر الحكم بشكل نهائي على انتهاء الكساد الحالي، هذا ما سنتناوله في الحلقة القادمة من هذا المقال ـــ إن شاء الله.
اقدم تقديري لجهودكم ،،، وشكرا لك
ياريت يا دكتور محمد تكتب مقالة عن مراحل الدورة الأقتصادية مع شرحها تفصيلا ولكم جزيل الشكر
شكرا جزيلا دكتور