تشكل المعلومات والبيانات والأرقام الاقتصادية والمالية اللبنة الأساسية والمدخل الأكثر أهمية في عملية التحليل الاقتصادي وتقييم الأداء المالي لكل من صاحب المنشأة، المستثمر، المستهلك، وصانع القرار الاقتصادي. فالبيانات الاقتصادية هي المقياس لدراسات الجدوى قبل الشروع في الاستثمار، وهي مقياس الأداء للمشاريع والاستثمارات القائمة، وهي أيضاً جرس الإنذار ومصدر الإشارة لأي تغير استراتيجي مطلوب من قبل المنشآت سواء أكانت منشآت أعمال أم منشآت غير هادفة للربح أو حتى تابعة للقطاع العام، كما أنها هي الأداة الرئيسية التي يعتمد عليها في تقييم أصول الشركات التي تتوقف عن العمل. لذا، فالحصول على مخرجات تحليلية وتقييم دقيق لأداء منشآت الأعمال والبيئة الاقتصادية الكلية والجزئية يتطلب أن تكون مدخلات العملية التحليلية والتي تعتمد عليها نماذج ومعادلات ودوال التحليل دقيقة وعلى درجة عالية من الاعتمادية.
فمن ناحية تطبيقية تنطلق من ''نظرية التوقعات الرشيدة'' الاقتصادية، تعتبر التغيرات في أسعار الأصول المالية المستثمر بها في السوق هي نتيجة لتفاوت المعلومات المعروفة في السوق والمتوقعة من قبل الوحدات الاقتصادية مع تلك التي يتم الإعلان عنها من قبل الجهة ذات العلاقة بالأصل الاستثماري. لذا، فأسعار الأصول المالية كأسعار الأسهم المدرجة هي انعكاس للتوقعات المستقبلية للمستثمرين والمتعاملين في السوق مقارنة بالمعلومات والبيانات الحقيقية التي يتم الإعلان عنها في وقت لاحق مستقبلاً، أي أن التغيرات السعرية هي عبارة عن تفاوت التوقعات مع المتحقق من نتائج مالية واقتصادية معلنة. وبناء على ذلك، تعتبر البيانات المالية والاقتصادية للمستثمرين والمتعاملين في السوق بمثابة الأوكسجين أو ماسحات الزجاج الأمامي التي توضح الرؤية الأمامية والمستقبلية للاستثمار ودراسات الجدوى واتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسات الاقتصادية أو باستثمار الوحدات الاقتصادية.
ولم يفت صناع القرار في الاقتصاديات المتقدمة الاهتمام بدقة البيانات والمعلومات الاقتصادية وسن التشريعات والأنظمة التي تلزم جهات معينة كوزارة المالية، البنك المركزي، وزارة التجارة، ومصلحة الضرائب وغيرها بنشر بيانات ومعلومات وأرقام دقيقة ومفصلة تصف النشاط الاقتصادي وتحركاته للتوصل إلى صورة بانورامية واضحة للسوق المستهدف تسمح للمستثمرين والمراقبين وذوي العلاقة بالوقوف على أرض صلبة قبل اتخاذ أي قرار قد يؤدي إلى نتائج استراتيجية تستمر تأثيراتها لفترات متتالية. ففي الاقتصاديات المتقدمة كبعض دول أوروبا الغربية واليابان وأمريكا، هناك توقعات ومعرفة شبه تامة بتوقيت صدور البيانات والمعلومات الاقتصادية التي غالباً ما تصدر في فترات أقصر زمنياً مقارنة مثلاً بالبيانات الكلية التي تصدر من دول الخليج. ففي دول الخليج، وهي مشكلة لمعظم دول العالم الثالث، تندر البيانات الاقتصادية والمالية العامة والشاملة التي تغطي فترات زمنية طويلة وبتكرار كبير، أي بتغطية فترات زمنية أقصر، يساعد على تعضيد العملية البحثية بما يؤدي إلى تضارب البيانات والمعلومات التي تستند إليها البحوث والتقارير. فعلى سبيل المثال، تضارب تناول وسائل الإعلام لمستويات البطالة ونسبها في المملكة لسنين طويلة، حيث تراوحت التقديرات بين 14 و20 في المائة تبعاً لبعض التقارير المصرفية والدولية إلى أن تولى الدكتور غازي القصيبي ـ رحمه الله ـ دفة وزارة العمل وتوصل بشجاعة يجيدها العلميون والمهنيون إلى أن البطالة المسجلة هي 13 في المائة فقط حين تمت دعوة تسجيل العاطلين عن العمل في مؤسسات التدريب المهني للتوصل إلى التوصل لإحصاء دقيق.
وبناء على ضرورة توافر بيانات اقتصادية دقيقة في أي اقتصاد، فإن المطلوب من أي جهات رسمية أو خاصة في أي اقتصاد هو توفير البيانات والمعلومات التي تؤدي إلى اتضاح الصورة الاقتصادية بتوقيت وتكرارات محددة تساعد على التقليل من حالة عدم التأكد وإيضاح الأداء الاقتصادي دون رتوش في وقت مبكر. وقد أكد على أهمية ذلك ملاحظة مديري صندوق النقد الدولي حين أشار تقرير مشاورات المادة الرابعة الأخير للصندوق قبل نحو أسبوعين إلى ترحيب مديري الصندوق''... بتصميم الحكومة السعودية على مواصلة تحسين جودة البيانات الإحصائية ونطاق تغطيتها، وأيدوا طلبها الحصول على المساعدة الفنية من صندوق النقد الدولي في هذا المجال''. إذن، فعلاوة على تقدير الصندوق لجهود المملكة لتحسين البيانات، إلا أن الجهات الاقتصادية في المملكة ما زالت تعمل مع الصندوق للحصول على الدعم الفني لتطوير توفير البيانات والإحصاءات وتسجيلها وحفظها وتوفيرها.
ومع ترقب تحسن البيانات التي تصدر من الجهات المعتمدة في المملكة، تأتي الأخبار ببيانات مفصلة لا نعلم مدى موثوقيتها ومنهجيتها كتلك التي وردت في تقرير الزميل محمد الهلالي من جدة يوم الثلاثاء الماضي 14/9/2010 في ''الاقتصادية'' ويتعلق بإنفاق الأسر السعودية خلال أيام العيد، حيث ذكر التقرير ما يلي ''... أوضح مازن بترجي نائب رئيس مجلس إدارة الغرفة التجارية الصناعية في جدة أن حجم إنفاق الأسر السعودية خلال موسم العيد الجاري ارتفع إلى خمسة مليارات ريال بزيادة تتجاوز 20 في المائة في معدلات الإنفاق عن العام الماضي. وأضاف بترجي: سجلت حركة البيع والشراء في قطاع التجزئة خلال شهر رمضان وموسم العيد نشاطا ملحوظا، وتجاوزت المبيعات في قطاع التجزئة 14 مليار ريال في مكة المكرمة ومحافظة جدة، حيث نشطت مبيعات الذهب.... وقال بترجي إن العوائد الاستثمارية عالية، وجميع الخدمات والفنادق والمطاعم والمراكز الترفيهية والشاليهات والاستراحات شهدت كثافة عالية من قبل الزوار، كما شهدت معدلات إنفاق عالية خلال موسم العيد الجاري''.
حقيقة، ليس هناك الكثير ليقال بعد هذه البيانات التفصيلية لحجم استهلاك الأسر السعودية في العيد مقارنة بفترة ما قبل الأعياد بحسب تصريح مازن بترجي نائب رئيس مجلس إدارة الغرفة التجارية الصناعية في جدة، خصوصاً أن جميع الوزارات المعنية والغرف التجارية الأخرى لم تتمكن من حساب حجم الاستهلاك وتغيراته في هذه الفترة. إذن فالسؤال المنطقي لغرفة جدة هو إيضاح منهجية حسابات الاستهلاك وتعريف الأسر السعودية وطرق الحساب الإحصائية لكي يتم تعميم التجربة في جهات أخرى تستفيد من حساب بيانات تفصيلية تغطي مواسم ذات علاقة كموسم العيد المرتبط بارتفاع الإنفاق الاستهلاكي. وقبل انتظار أي إيضاح، فقد أورد نفس التقرير بأن''... واصف كابلي رجل الأعمال ورئيس مجلس إدارة الكابلي (أوضح) أن معدلات الإنفاق للأسر السعودية خلال العيد ارتفعت بنحو 30 في المائة إلى أكثر من أربعة مليارات ريال، نتيجة عدد من العوامل، كما أسهمت العادات الاجتماعية للأسر السعودية في صرف الأسر خلال موسم العيد أكثر من الدخول الشهرية لهم''.
وبين تصريحي بترجي وكابلي اختلطت الأرقام في التقرير نفسه، حيث أشار الأول إلى نمو بنحو 20 في المائة يصل لنحو خمسة مليارات ريال من ناحية الإنفاق، بينما أشار الثاني إلى نمو بنحو 30 في المائة يصل إلى أكثر من أربعة مليارات ريال للأسر السعودية ولم يتم تحديد الإنفاق في المنطقة الغربية فقط. هذا التفاوت الكبير يتطلب إيضاحات وتفاصيل أكثر لتتضح الصورة ويتم الاعتماد على هذه البيانات.
وأخيراً، من المهم أن يتم التعامل بحذر مع إصدار الأرقام والبيانات الاقتصادية والمالية لتأثيرها في القرارات الاستثمارية وضرورة دقتها وحرفيتها. ففي حالة تضارب الأرقام، من المتوقع أن يتبع المستثمرون الأرقام الأكثر موثوقية واعتمادية، أما إذا كانت الأرقام المتوافرة غير متضاربة ومتوافرة من مصدر واحد فقد تؤدي إلى اعتماد المستثمرين عليها، وإن كانت في حقيقتها تفتقد الدقة. فالمطلوب أولاً وأخيراً هو زيادة كم ونوع البيانات الاقتصادية والمالية، وأن تقوم الجهات المختصة بالعمل على إصدارها كمصلحة الإحصاءات العامة أو وزارة التخطيط فغياب المعلومة هو ما يفتح الباب على مصراعيه للتوقعات والأرقام المتضاربة.