أصدر بنك التسويات الدولية Bank of International Settlements هذا الأسبوع تقريره عن إجمالي حجم المعاملات اليومية في السوق العالمي للنقد الأجنبي، والذي يصدره كل 3 سنوات، ويرتكز التقرير على مسح تشترك فيه البنوك المركزية والمؤسسات النقدية الرئيسية في العالم، ويشمل حجم التعاملات اليومية في سوق النقد الأجنبي العالمي كافة الاستخدامات وبكافة العملات في هذا السوق، وقد اشترك في المسح الذي يجريه بنك التسويات الدولية لغرض إعداد تقرير هذا العام 53 بنكا مركزيا ومؤسسة نقدية، وتمثل أهم البنوك والمؤسسات النقدية في العالم، ويعرض تقرير هذا العام أكثف التقديرات لحجم التعاملات اليومية بالنقد الأجنبي، وهيكلها عالميا، بما في ذلك المشتقات في معدل الفائدة.
أنشئ بنك التسويات الدولية في عام 1930 بموجب اتفاقية "هيج Hague" في بازل بسويسرا، ويوجد له مكاتب تمثيل في هونج كونج ومدينة المكسيك، ويعد بنك التسويات الدولية أحد المؤسسات الدولية التي تهدف إلى دعم التعاون النقدي والمالي بين البنوك المركزية والمؤسسات النقدية في دول العالم، كما يقدم بعض الخدمات المالية الرسمية للبنوك المركزية للدول الأعضاء، ولذلك يطلق عليه أحيانا بنك البنوك المركزية.
لقد كنت انتظر صدور هذا التقرير بفارغ الصبر، لكي أتعرف على أثر الأزمة المالية العالمية على المعاملات اليومية بالنقد الأجنبي، والأهمية النسبية للعملات الدولية المختلفة المستخدمة في المعاملات اليومية للسوق العالمي للنقد الأجنبي، بصفة خاصة الدولار الأمريكي الذي يتعرض لضغوط حادة منذ انطلاق الأزمة، وعندما كنت أقوم بتدريس مقرر اقتصاديات التمويل الدولي، غالبا ما كنت أذكر لطلبتي أنني أتوقع ان يكون الحجم الفعلي للمعاملات اليومية بالنقد الأجنبي حاليا اقل عن ذلك الحجم الذي يستند إلى التقرير الذي أعده بنك التسويات الدولية في 2007، وأنه ربما يكون التعامل بالدولار الأمريكي قد تراجع بصورة حادة نظرا للضغوط التي يتعرض لها نتيجة للازمة المالية العالمية. غير أن التقرير الذي أصدره البنك منذ عدة أيام جاء ليثبت عكس ذلك، وأنه وعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية التي يواجهها العالم، فإن حجم المعاملات اليومي بالنقد الأجنبي يتزايد وبمعدل نمو كبير، على غير المتوقع، وأن الدولار الأمريكي ما زال هو عملة التبادل الأساسية للعالم.
يعد السوق العالمي للنقد الأجنبي أكبر أسواق العالم وأضخمها على الإطلاق، سواء من حيث حجم التعامل اليومي أو إجمالي التعامل السنوي، ولا يضاهيه في ذلك أي سوق آخر لسلعة أو خدمة في العالم، بما في ذلك السوق العالمي للنفط الخام، ويبلغ إجمالي حجم التعامل اليومي في السوق العالمي للنقد الأجنبي، وفقا لآخر تقرير لبنك التسويات الدولية، 4 تريليون دولارا يوميا، أي حوالي 167 مليار دولار كل ساعة، أو 2.8 مليار دولار كل دقيقة، وعلى ذلك يبلغ إجمالي حجم التعامل السنوي في النقد الأجنبي عالميا حوالي 1460 تريليون دولارا، وهو ما يعني أن كل أسبوعين تقريبا تجرى معاملات في السوق العالمي للنقد الأجنبي تعادل إجمالي حجم الناتج المحلي في العالم أجمع. نحن إذن نتحدث عن سوق هائل جدا، حيث لا يوجد في العالم سوقا بهذا الحجم الضخم.
فيما سبق كان تعريف معاملات النقد الأجنبي التقليدية يضم معاملات السوق الحاضر Spot، ومعاملات السوق الآجل Forward، و الترتيبات المتبادلة في النقد الأجنبي Swaps، غير أنه لم يكن يشمل أدوات الترتيبات المتبادلة والخيارات Options لدى سماسرة النقد الأجنبي OTC، وتشمل المعاملات في تقرير هذا العام كل هذه الأدوات الخمس، ووفقا للتقرير الذي أصدر هذا العام تزايدت المعاملات اليومية في النقد الأجنبي من 3.3 تريليون دولارا يوميا تقريبا في 2007 إلى 4 تريليون دولارا يوميا تقريبا في ابريل 2010، وهو ما يعني أنه على مدى السنوات الثلاث السابقة تزايد حجم المعاملات اليومية في النقد الأجنبي بنسبة 20% تقريبا، ويعكس هذا النمو الكبير في المعاملات اليومية المركز القوي للاقتصاديات الناشئة بصفة أساسية، الصين وروسيا والبرازيل وتركيا والهند.
يرجع هذا النمو في معاملات سوق النقد الأجنبي أساسا إلى النمو في حجم معاملات السوق الفوري Spot، والتي تزايدت بنسبة 48% تقريبا مقارنة بعام 2007، وتمثل معاملات السوق الفوري حاليا حوالي 37% من إجمالي المعاملات في السوق الدولي للنقد الأجنبي، ومن حيث القيمة تزايدت هذه المعاملات من 1 تريليون دولارا يوميا تقريبا في ابريل 2007 إلى 1.5 تريليون دولارا يوميا تقريبا في ابريل 2010، وقد كانت الزيادة في حجم المعاملات اليومية للأدوات الأخرى أكثر تواضعا عند 7%، حيث بلغت 2.5 تريليون دولارا يوميا في ابريل 2010، ومن بين هذه الأدوات نمت معاملات السوق الآجل بصورة واضحة، بينما لم تنم تقريبا معاملات الترتيبات المتبادلة في العملات Currency swaps، مقارنة بالوضع في 2007، في الوقت الذي تناقصت فيه المعاملات في خيارات النقد الأجنبي Options. من ناحية أخرى يتضح من التقرير أن معاملات سوق النقد الأجنبي أصبحت دولية بصورة أكبر مما سبق، حيث مثلت المعاملات بالنقد الأجنبي عبر الحدود حوالي 65% من إجمالي المعاملات اليومية في سوق النقد الأجنبي، بينما اقتصرت المعاملات داخل الحدود على 35% من إجمالي المعاملات اليومية في ابريل 2010.
أما عن الأهمية النسبية للعملات الدولية المستخدمة في تسوية هذه المعاملات، فإن التقرير يشير إلى أن الدولار ما زال عملة العالم الأساسية، على الرغم من كل ما حدث، فوفقا للتقرير فإن حوالي 85% من المعاملات المالية الدولية اليومية في سوق النقد الأجنبي تتم حاليا بالدولار الأمريكي، صحيح انه منذ إطلاق اليورو تراجعت الأهمية النسبية للدولار الأمريكي كعملة تسوية للمعاملات بالنقد الأجنبي ببطء من 90% عام 2001 إلى 85% في ابريل 2010، إلا أن الدولار الأمريكي مازال هو العملة المفضلة للبنوك المركزية في العالم، وأنه لا توجد مخاطر حقيقية على مركز الدولار كعملة التسوية الأولى للمعاملات الدولية في العالم، وأن اليورو لا يهدد المركز العالمي للدولار كعملة للعالم. أما عن العملات الدولية الأخرى المستخدمة، فقد تزايدت المعاملات اليومية بالدولار الاسترالي والدولار الكندي، بينما انخفضت المعاملات اليومية بالجنيه الإسترليني. أما أهم العملات التي تزايدت المعاملات اليومية فيها فهي الليرة التركية والون الكوري، وأخيرا فإن أهم زوج من العملات يتم تبادله في هذا السوق فهو تبادل الدولار باليورو والعكس، وتمثل هذه المعاملات حوالي 28% من المعاملات اليومية في سوق النقد الأجنبي.
بالنسبة للأهمية النسبية لمراكز النقد الأجنبي في العالم، فقد تغير ترتيب تلك المراكز بعض الشيء مقارنة بالتقرير السابق، بالرغم من أن لندن ما زالت تمثل أكبر مركز لمعاملات النقد الأجنبي، حيث يتم أكثر من ثلث المعاملات اليومية بالنقد الأجنبي في العالم، وخلال السنوات الثلاث الماضية ارتفعت نسبة المعاملات التي تتم من خلال مركز لندن من 34.6% في ابريل 2007 الى36.7% في ابريل 2010. بهذا الشكل يؤكد مركز لندن قوته على المستوى العالمي كأكبر سوق نقدي في العالم، وبالتالي تزول المخاوف حول احتمال فقدان سوق لندن لأهميته على المستوى الدولي.
الأسباب الأساسية التي تجعل من سوق لندن أهم الأسواق العالمية هي أنه من الناحية التاريخية يعد أهم أسواق النقد في العالم، كما أن الموقع الجغرافي الذي يحتله سوق لندن، حيث يتوسط التوقيت الزمني نهارا بين الولايات المتحدة وآسيا، يضفي عليه أهمية إستراتيجية للمتعاملين في النقد الأجنبي، هذا بالإضافة إلى أن سوق لندن يتميز بكثافة الاستثمارات في البنى التحتية فيه، بصفة خاصة في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والتي تعد أهم الأسس اللازمة لأي سوق مال عالمي نشط وفعال.
ثاني الأسواق النقدية من حيث الأهمية هو الولايات المتحدة حيث يتم تداول حوالي نصف حجم المعاملات في النقد الأجنبي التي تتم في لندن، فقد مثلت المعاملات التي تتم من خلال الولايات المتحدة حوالي 18% من إجمالي حجم التعامل اليومي في العالم. أهم الأسواق العالمية الأخرى هي اليابان، حيث يتم تبادل 6% من حجم المعاملات اليومية بالنقد الأجنبي، وسنغافورة وسويسرا وهونج كونج، حيث يتم تبادل 5% من حجم المعاملات الدولية بالنقد الأجنبي في كل سوق من هذه الأسواق، واستراليا، حيث يتم تبادل 4% من حجم التعامل اليومي بالنقد الأجنبي في العالم.
تشمل عمليات مشتقات معدل الفائدة الاقتراض بالعملات ذات معدلات الفائدة المنخفضة، على سبيل المثال الين الياباني، وذلك لاستخدامها في الاستثمارات التي تؤدي إلى تحقيق معدلات أعلى من العائد، على سبيل المثال الدولار الاسترالي، وبالنسبة لهذه المعاملات في مشتقات معدل الفائدة فقد تزايدت بنسبة 24%، حيث بلغ متوسط المعاملات اليومية 2.1 تريليون دولارا في ابريل 2010، وقد كانت معظم الزيادة الحادثة في هذا البند راجعة إلى النمو في الاتفاقيات الآجلة والتي تزايدت بنسبة 132% في 2010، حيث بلغت 601 مليار دولارا.
أما عن أهم المؤسسات التي تصاعد دورها في المعاملات الدولية في سوق النقد الأجنبي فهي صناديق التحوط، وشركات التأمين، والبنوك المركزية، والمؤسسات غير المصرفية الأخرى.
تجدر الإشارة إلى أن هذا الحجم الضخم جدا من المعاملات يغري الحكومات دائما بالتفكير في فرض ما يسمى بضريبة توبن Tobin Tax، على هذه المعاملات، وكان جيمس توبن قد اقترح في السبعينيات أن يتم فرض ضريبة على المعاملات المالية للحد من عمليات المضاربة على العملات، وذلك في أعقاب انهيار نظام بريتون وودز لمعدلات الصرف الثابتة. لو تم بالفعل فرض ضريبة توبن على المعاملات في العملات، فإن الحجم الضخم جدا لأساس فرض الضريبة في هذه الحالة سوف يمكن الحكومات من تحصيل إيرادات ضريبية ضخمة تساعد الميزانيات العامة لتلك الدول، غير أنه من المؤكد أن الضريبة سوف تؤثر بصورة سلبية على تحركات رؤوس الأموال قصيرة الآجل بين الدول، أي أن الآثار المتوقعة للضريبة على التجارة العالمية تعد محدودة، كذلك يعد تأثير فرض مثل هذه الضريبة على حركات رؤوس الأموال طويلة الأجل محدودا أيضا، وبما إن أهم الآثار السلبية المتوقعة للضريبة هي على تدفقات رؤوس الأموال قصيرة الآجل، فإن فرض مثل هذه الضريبة سوف يضمن تحقيق استقرار اكبر على المستوى العالمي في الأسواق.
إذا كان نمو القطاع المالي على النحو الذي رأيناه في العقود السابقة، يقوم أساسا على المضاربة في المشتقات، فإن الإضافة الحقيقية لمثل هذه المعاملات في الاقتصاد تعد محدودة جدا، وهو ما يعني أن بعض جوانب النمو في القطاع المالي ليس لها قيمة مضافة حقيقية في الاقتصاد، بل ان المشكلة الكبرى تتمثل في أن مثل هذه الجوانب من النمو تؤدي إلى حدوث عدم استقرار في الاقتصاد، وتقدم الأزمات المالية التي مر بها العالم أمثلة عديدة على ذلك، وهو ما يعزز حجة أن مثل هذه المعاملات تحتاج إلى فرض ضريبة عليها للحد من نموها وتجنب الآثار الضارة التي يمكن ان تنشأ عنها، وهو أحد الخيارات محل الجدل الشديد بين الاقتصاديين حاليا.
الدولار .. وبس!! .. صورة مع التحية للأخوان الذين لا زالوا يعتقدون أن اليورو أو اليوان الصيني قد يحل محل الدولار في المستقبل!!!!! .. أما زيادة حصة السوق الفوري من التداولات اليومية مقارنةً ببقية أسواق المشتقات المالية فيعود سببه إلى كونه الأبسط وأكثر فهماً منها !!.. ولكونه أيضاً يحققُ مبدأ ( يداُ بيد) فهو السوق الأقرب للمعاملات الإسلامية!!!!