مع بداية الأزمة المالية العالمية في صيف 2007 وتداعياتها المؤثرة في الاقتصاد العالمي ليومنا هذا، بدأ فصل جديد من التركيز على بعض التخصصات البنكية والاهتمام المالي وارتفاع الطلب عليها من قبل صناع القرار والمؤسسات المالية والاستثمارية, مفادها التركيز على مجالات إدارة المخاطر، الالتزام، والتفتيش والتدقيق المالي. هذه النشاطات البنكية التي كانت قائمة لوقت طويل منذ بدايات نشوء القطاع المالي موجودة بالفعل في جميع البنوك والمؤسسات المصرفية التجارية والاستثمارية كمتطلب نظامي يتطلب وجودها في أي منشأة مصرفية، خصوصا أن ''القواعد المثلى لأداء الأعمال'' أو Best Practice للعمل المالي والبنكي تتطلب عالميا وجود هذه الوظائف التي تستمد بعض طرقها في العمل من المشرع المحلي كالبنوك المركزية والمنظمات والجهات الدولية المعنية بالقطاع المالي العالمي كبنك التسويات الدولية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
وتمكنت البنوك عالميا وإقليميا ومحليا من سد هذه الثغرة النظامية في معظم الأحيان بقليل من الحرص والتدقيق حين لم يكن هناك دافع ملح لهذا المتطلب النظامي القانوني والتشريعي وبالاتكاء على كون هذه العمليات هي مجرد مراكز تكاليف تابعة لأقسام مساندة لا تأتي بأرباح أو عملاء ولا تؤثر في القوائم المالية، وبالذات في أوقات الطفرة والنمو الاقتصادي.وكون هذه الأقسام والعمليات ليست مدرة للأرباح، فقد أصبح في السنوات السابقة، أعني سنوات الطفرة الأخيرة، نقل أحد الموظفين من أحد أقسام الإقراض أو الاستثمار إلى أقسام مخاطر الائتمان أو التفتيش والتدقيق والتوافق النظامي بمثابة العقوبة نظرا لتباين هيكل المكافآت بين موظفي البنوك في الأقسام الربحية كالتمويل والمصرفية الاستثمارية مع نظرائهم في أقسام حسابات المخاطر أو أقسام الالتزام النظامي والتفتيش والتدقيق المالي، حيث تميل الكفة إلى الأقسام الربحية.
بيد أن هذه النظرة للأقسام المساندة بدأت في التغير في السوق المصرفية عالميا في العامين الماضيين, وبدأ بريق هذه الأقسام والوظائف في اللمعان وجذب الكفاءات نحو التخصص في هذه العمليات المساندة, نظراً لارتفاع الطلب من قبل البنوك وشركات الاستشارات وبيوت الخبرة على الكفاءات النوعية المتخصصة في هذه العمليات والأقسام بسبب الأزمة المالية العالمية التي أعادت الاعتبار إلى هذه التخصصات كونها تشكل خط الدفاع الأول تجاه مخاطر الائتمان, وهي التي تطلق صفارة الإنذار الأولى تجاه أي مخاطر قد تؤدي إلى انحراف في أداء البنك أو عدم كفاية رأس المال.
وبالطبع، مع ارتفاع الطلب السريع على كفاءات نوعية في تخصصات معينة وأخذاً في الاعتبار بطء تجاوب قوى العرض بتوفير هذه المهارات يبدأ سعر الكفاءات ممثلا في الرواتب والمنافع المادية والمعنوية بالارتفاع مقارنة بالوظائف والتخصصات الأخرى. لذا، فالأسئلة الأولى التي قام بطرحها تنفيذيو البنوك مع بداية ظهور تداعيات الأزمة المالية العالمية تضمنت ''أين كانت إدارة مخاطر الائتمان؟'' و''أين قسم التفتيش والتدقيق من تجاوزات الإقراض؟'' و''هل نحن متوافقون مع المتطلبات النظامية والتشريعية المرتبطة بتناسق الموجودات والمطلوبات وكفاية رأس المال؟''.
ففي البنوك والمؤسسات المالية التي يقل فيها التحفظ والحذر، تكون الإجابة عن هذه الأسئلة واضحة وصريحة تتلخص في كون الإدارة التنفيذية لهذه البنوك في الأوقات الجيدة وفي فترات الطفرة على سعة من أمرها ولا تولي الأقسام المساندة الأهمية والامتيازات ذاتها التي توليها إلى الأقسام الربحية, ولسان حال الإدارة التنفيذية هنا يقول ''وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر!''.
وعليه، أدت الأزمة المالية العالمية إلى تغيرات في سوق العمل الخاصة بالقطاع المالي كالمثال الذي تم طرحه في مقالة الأسبوع الماضي, التي تم نشرها في هذه الصفحة بعنوان ''موظفو البنوك كالنحل أم الجراد؟''، خصوصاً أن حجم التغيرات والتبعات المتوقعة يرتبط بعمق الأزمة وطولها, فإذا كانت أزمة عابرة فإن تداعياتها تظل مرحلية ومؤقتة، إلا أن الأزمة المالية العاتية التي تعد الأقوى منذ الكساد الكبير, تشير إلى أن التغيرات المصاحبة لها على كل الأصعدة, بما في ذلك صعيد مستقبل بعض الوظائف والأدوار البنكية هي تغيرات هيكلية ستستدام لفترة طويلة.
إذن، من المتوقع أن تشهد سوق العمل المصرفية تغيرات هيكلية تتضمن التركيز على العمليات والأقسام المساندة التي تضمن الالتزام وتحفظ حقوق المودعين وتخلق نوعاً من العقلانية لعمليات التوسع الإقراضي التي لا تلتفت إلى قواعد وأساسيات العمل المصرفي في أوقات الذروة وارتفاع الموجة.
وأتذكر هنا مقولة المدير التنفيذي السابق لـ ''سيتي بنك'' مع بداية الأزمة المالية العالمية قبل نحو أكثر من عامين وبدء ظهور تأثيراتها في البنك الذي يديره حين قال إن ''الجميع (أي جميع المصرفيين) يرقصون حين تعزف الموسيقى'', مشيراً إلى أن جميع البنوك اتبعت أسلوب القطيع حين كانت الظروف الاقتصادية إيجابية وفي أوقات فورتها دون الالتفات إلى مخاطر الائتمان المحتملة.
وختاماً، كما ولدت الأزمة المالية العالمية وتداعياتها اختناقات وصعوبات لسوق العمل في بنوك العالم في بعض التخصصات كالمصرفية الاستثمارية، إلا أن فرصاً برزت إلى الصورة مجدداً كإدارة مخاطر الائتمان، التفتيش والتدقيق، والمطابقة والالتزام، كمجالات، ومن المتوقع أن يستمر الطلب على الكفاءات النوعية المتخصصة فيها والقادرة على التعامل مع متطلباتها. وهنا تبرز فرصة للمصرفيين الاستثماريين ومصرفيي الإقراض للانتقال ومحاولة اكتساب المهارات المتعلقة بهذه الوظائف تماماً مثل المدعي العام الذي يقرر ممارسة المحاماة!
شكر دكتور قصي وانا من المتابعين لمقالات الجيدة والرائعة ، ولكن لدي ملاحظة ان البنوك عندما كانت ترقص بالربحية والنمو تجاوزت كثيرا مما كلفها الكثير ،،، الأن يرقصون حزنا وبهستيريا المخاطر يوجد تحفظ شديد في الاقراض سوف يكلفهم الكثير ايضا ، للأسف لا يوجد توازن في كل الظروف ... والسبب لايوجد لدينا مصرفيين محترفين ...فقط واسطه حتى في قطاع حساس مثل البنوك ولك ان تلاحظ من هو رئيس مجلس ادارة بنك الجزيرة او بنك الخليج الدولي والمدير التنفيذي لبنك الانماء لتعرف لماذ تسقط البنوك بسهولة ...تحياتي وتقديري