عند تناول سوق العمل السعودية، فإن هناك محطات عدة يجب الوقوف عندها وتحليل اتجاهاتها، إلا أن تحليل سوق العمل ككل من الصعوبة بمكان؛ نظرا إلى عدم تناغم وتطابق مواصفات الوظائف وتغيرات الطلب الكلي على عنصر العمل كمدخل رئيس في العملية الإنتاجية، وتفاوت عرض العمل في الوقت نفسه مع المهارات والإمكانات المطلوبة لشغر الوظائف، حيث إن المهارات المطلوبة اليوم قد لا تتوافر غدا لاختلاف توجهات السوق وتفاعلات قوى العرض والطلب لكفاءات معينة مع نمو القطاعات الاقتصادية.
بمعنى آخر، يتغير الطلب على الكفاءات والمهارات تبعا للتغيرات الموسمية والتغيرات الهيكلية للاقتصاد، التي تؤثر بدورها في حجم الطلب على مختلف الكفاءات، أي أن الاقتصاد الكلي ونموه وتطوره يؤثر في سوق العمل بطريقة تتيح معرفة الطلب المتوافر على مهارات معينة في سوق العمل، إلا أن عرض العمل من هذه الكفاءات يحتاج إلى وقت للتجاوب مع قوى الطلب؛ نظرا إلى كون إعداد الكفاءات لمختلف المهام يتطلب توفير التعليم الأكاديمي والخبرة التي تُكتسب على مدى زمني أطول بجانب إثبات التنافسية، مقارنة بعرض العمل الخارجي، الذي يمكن الحصول عليه من خارج المملكة بشكل سريع وآني.
بمعنى آخر، إن الوصول إلى تحليل دقيق لسوق العمل يتطلب تناول كل قطاع على حدة للتقليل من التباين في التحليل ولتحييد المتغيرات الكلية المؤثرة في سوق العمل من خلال جمع أكبر عدد من الصفات المتشابهة لقطاعات معينة، ومقارنة المتغيرات المؤثرة في ديناميكية سوق العمل بمسطرة واحدة ومقياس ثابت.
ويعد تناول سوق العمل في القطاع المصرفي الخليجي بمثابة الدخول في غابة من العمارات الأسمنتية؛ نظرا إلى تشعب الظروف مقطعيا بين مختلف القطاعات والصناعات، وزمنيا بين مختلف الدورات الاقتصادية.
فبنظرة اقتصادية تتناول سوق العمل في البنوك السعودية، كان عرض العمل في سوق البنوك السعودية خلال السبعينيات والثمانينيات الميلادية يتصف بندرة الكفاءات السعودية، إلى أن بدأت معدلات السعودة بالارتفاع تدريجيا في التسعينيات وبداية الألفية مع تركيز واضح لارتفاع نسب السعودة في الفروع وعمليات التجزئة المصرفية.
ومع مطلع الألفية، بدأت السعودة بالارتفاع المتفاوت في أقسام أخرى في البنوك السعودية كتمويل الشركات والمصرفية الخاصة التي تعتمد بصورة كبيرة على التسويق وبناء العلاقة مع العميل.
بيد أن النصف الثاني من التسعينيات شهد ارتفاعا لمستويات السعودة في الأقسام الاستراتيجية الأخرى كالتقنية البنكية والخدمات الإلكترونية وإدارة المخاطر الائتمانية والتفتيش البنكي، وإن بشكل أكثر تواضعا من الأقسام المرتبطة بالتسويق والعلاقة مع العميل، ما يشير إلى تفضيل قطاع الأعمال والمستثمر السعودي التعامل مع المصرفيين السعوديين وتجاوب البنوك مع الميزة التنافسية التي يفرضها هذا التفضيل المنطقي.
وقبل عام 2003، كان عدد المصرفيين الاستثماريين في السعوديين محدودا وقد لا يتجاوز عدد أصابع اليدين - وبالإمكان تسميتهم - نظرا إلى عدم توافر سوق للمصرفية الاستثمارية المتخصصة حينئذ، ولو أن البنوك التجارية كانت تقدم بعض خدمات البنوك الاستثمارية كالوساطة وإدارة الأصول. ومع نهوض السوق المالية في بداية الطفرة الأخيرة بعد إنشاء هيئة السوق المالية في صيف عام 2003 وقرار الفصل بين عمليات البنوك التجارية والبنوك الاستثمارية، بدأ الطلب على الكفاءات والمهارات المصرفية في السوق السعودية بالتغير؛ نظرا إلى حجم الطلب الكبير على المهارات المتعلقة بأسواق المال وأسواق الدين من سندات وصكوك وترتيب وإدارة أصول وغيرها، ما خلق نوعا من الاختلال للنمو التدريجي والمتأني السابق.
لذا، ارتفع الطلب بشكل كبير على الكفاءات المصرفية من قبل البنوك الاستثمارية وشركات الوساطة المنضمة حديثا حينها إلى السوق المصرفية بجانب توسعات البنوك التجارية من خلال وحداتها الاستثمارية التي أنشأتها بين الأعوام 2003 و2007؛ ما أدى إلى نتيجة اقتصادية متوقعة، نظرا إلى تفوق قوى العرض على الطلب، هي ارتفاع سعر "مكافآت ورواتب" من يلتحق بقطاع المصرفية الاستثمارية.
هذا الارتفاع في السعر نظرا إلى محدودية العرض المحلي أساسا أدى إلى انتقال كثير من الكفاءات المصرفية من البنوك التجارية إلى البنوك الاستثمارية؛ نظرا إلى تشابه المهارات والقدرات والخبرات المطلوبة بجانب فتح باب استقطاب الكفاءات الأجنبية للحد من التكاليف من جانب البنوك الاستثمارية.
أما البنوك التجارية، فقابلت تسرب كفاءاتها، خصوصا السعوديين بعمليات إحلال لكفاءات أجنبية سواء من باكستان أو الهند أو بريطانيا وأمريكا وبقية دول العالم للحصول على الخبرات الجاهزة التي تستطيع سد ثغرة تسرب الكفاءات دون الحاجة إلى توفير التدريب المكثف والطويل لكفاءات سعودية جديدة.
هذا السيناريو أخذ مكانا في السنوات 2003 إلى 2007، أي إلى أن بدأت تبعات انهيار السوق المالية في عامي 2008 و2009 حين انخفض حجم التداول بالتأثير في شركات الوساطة والبنوك الاستثمارية ونتائجها المالية مع مطالبة ملاكها بنتائج مالية محسوبة تبعا للعوائد المقدرة وقت إعداد دراسات الجدوى لهذه البنوك الاستثمارية وشركات الوساطة.
إذن، أثر انهيار السوق المالية السعودية في جدوى إبقاء وتوظيف المصرفيين الاستثماريين، الذين تم استقطابهم من سوق البنوك المحلية، وبالذات البنوك التجارية، وبدأت عمليات التقليص وتخفيض التكاليف في البنوك الاستثمارية عن طريق تسريح عدد من موظفي المصرفية الاستثمارية، أو من خلال إعادة التفاوض بشأن مرتباتهم للتقليل من التكاليف.
وعليه، أضحى عدد ليس بقليل من المصرفيين الاستثماريين الذين اختاروا بأنفسهم وإرادتهم الهجرة من البنوك التجارية إلى البنوك الاستثمارية بين فكي كماشة، فلم تسمح لهم ظروف سوق المال الاستمرار كمصرفيين استثماريين "مستجدين" ولم يجدوا وظائفهم التي هجروها في البنوك التجارية بانتظارهم، بل شغرها مصرفيون أجانب نفدوا بجلدهم من الأزمة المالية العالمية الخانقة في دول العالم الأخرى، التي تم تجاوزها سعوديا بفضل السياسات الاقتصادية الكلية النقدية والمالية الناجعة والحصيفة.
وأخيرا، قد يجادل أحدهم بعد كل ذلك بأن جملة تغيرات سوق العمل في البنوك السعودية هي كون موظفو البنوك السعوديون كالجراد يأكلون من حقل ويرحلون إلى حقل آخر، ولذا ليس هناك أي ضير وأسف على من يرتضي بعمل وقواعد قوى السوق.
وقد أجادل حينها بأن موظفي البنوك السعوديين هم كالنحل ينقلون رحيق خبراتهم بين ورودنا المصرفية سواء أكانت تجارية أم استثمارية، وما زالت الخبرة مخزونة في رؤوسهم!
شكراً لك دكتور قصي على هذا الطرح الجميل .. انا اميل الى التشبيه بالجراد اكثر من النحل .. ولكن في النهاية من لا يستخدم المبيدات الحشرية (وليست البشرية) سيتحمل خسارة محصوله ..