أصدر صندوق النقد الدولي الأسبوع الماضي تقريره الأولي عن اقتصاد اليونان، وذلك بعد بدء تنفيذ اتفاقية المساندة الموقعة بين اليونان والصندوق بمساعدة الاتحاد الأوروبي، وذلك لمعالجة الأوضاع المالية المتردية للاقتصاد اليوناني، والتي وضعت اليورو على حافة الهاوية في مايو الماضي، والتقرير يلقي الضوء على أهم القضايا الشائكة التي يعاني منها الاقتصاد اليوناني، ومدى التقدم أو التأخر الذي حدث في كل منها.
يؤكد التقرير في البداية أنه على الرغم من التطورات الايجابية التي حدثت في اليونان في الأشهر الثلاثة الماضية، إلا أن الأسواق ما زالت متشككة ويساورها القلق حول الأوضاع في اليونان، وينعكس ذلك بشكل أساسي في الهامش المرتفع على سندات الديون السيادية اليونانية. فعلى الرغم من ان هامش معدل الفائدة على هذه السندات كان قد مال إلى الانخفاض بفعل توقيع اتفاقية المساندة مع الصندوق، وكذلك نتيجة لمشتريات البنك المركزي الأوروبي من السندات اليونانية والتي بلغت حتى هذه اللحظة حوالي 25 مليار يورو، إلا ان قيام مؤسسة مودي بتخفيض التصنيف الائتماني لليونان في منتصف يونيو الماضي أدى إلى رفع هذا الهامش بشكل واضح مرة آخري.
ويؤكد التقرير على أنه، كما هو متوقع، فان النشاط الاقتصادي في اليونان يتراجع، فوفقا للسيناريوهات المتاحة من المتوقع ان ينخفض الناتج المحلي الإجمالي في اليونان في 2010 بنسبة 4%، ويستمر هذا الانخفاض في 2011، حيث ينخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.6% على التوالي، ولا يتوقع ان يحقق الاقتصاد اليوناني نموا موجبا سوى في عام 2012، وبمعدل نمو لا يتجاوز 1.1%، وفقا لتوقعات صندوق النقد الدولي، وربما تكون أهم التطورات المتوقعة هي اتجاهات النمو في الإنفاق الحكومي، والذي يفترض ان يواصل الانخفاض خلال الفترة من 2010 إلى 2015 من 10.5% إلى 0.1% على التوالي حتى تتمكن اليونان من ضبط استدامة ماليتها العامة والسيطرة على نسبة دينها العام إلى الناتج المحلي الإجمالي.
أسوأ جوانب السيناريوهات المتوقعة لاقتصاد اليونان هو تطورات معدلات البطالة، والتي يتوقع ان تستمر عند مستويات مرتفعة جدا حتى عام 2015، حيث يتوقع ان تستمر معدلات البطالة في التزايد بشكل مستمر من 9.4% في 2009 إلى 14.8% في 2012، قبل ان تأخذ في الانخفاض المحدود إلى 13.4% في عام 2015، وهو في رأيي أهم التحديات التي ستواجه اليونان خلال الخمس أعوام القادمة. صحيح ان معالجة الأوضاع المالية لليونان مسألة ضرورية للحيلولة دون إعلان إفلاسها، لكن ذلك سوف يخلق مشكلة لا تقل خطورة عن مشكلة الديون السيادية، وهي كيفية التعايش مع هذا المعدل المرتفع جدا للبطالة خلال هذه الفترة الطويلة من الزمن، دون ان يتأثر النسيج الاجتماعي للمجتمع في اليونان.
يشير التقرير إلى انه على الرغم من ميل النمو في الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول من هذا العام إلى الانخفاض بنسبة 2.5% (على أساس سنوي)، إلا ان معدل التضخم ما زال مرتفعا عند معدل 5.3% في مايو الماضي (على أساس سنوي). في ذات الوقت تصاعد عجز الميزان التجاري لليونان وهو ما يعكس استمرار ارتفاع أسعار النفط وتزايد الطلبيات على شراء سفن جديدة نتيجة لتحسن أوضاع صناعة النقل البحري.
غير أن الصندوق يشير بأن جهود تطبيق برنامج المساندة من جانب اليونان، للحد من العجز المتصاعد في الميزانية، بدأت تعطي ثمارها، حيث بدأ العجز في الميزانية يميل نحو التراجع، على الرغم من استمرار ارتفاع مستويات عدم التأكد حول الاقتصاد اليوناني. من ناحية أخرى فإن أداء الإيرادات العامة يميل أيضا نحو التحسن بصورة أفضل مما كان مخططا في برنامج المساندة الذي اقترحه الصندوق، حيث بلغ عجز الميزانية خلال الفترة من ابريل حتى مايو الماضي 3.5 مليار يورو، وهو أفضل بكثير مما كان متوقعا، ويمثل 1.5% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، وهو تطور ايجابي هام جدا ويعكس مدى نجاح سياسات التقشف التي تطبقها اليونان.
غير أن التقرير يشير إلى أن القطاع المصرفي في اليونان مازال تحت الضغوط، فما زالت البنوك تعاني من مشكلة نقص السيولة، حيث ما زالت تواجه البنوك اليونانية صعوبات في إعادة بناء التزاماتها، نظرا لان السوق لم يستعد الثقة في النظام المالي اليوناني بعد. بصفة خاصة ترتب على تخفيض مؤسسة مودي للتصنيف الائتماني لليونان في منتصف يونيو الماضي قيام مؤسستي تصنيف أخريين بخفض تصنيف اليونان إلى درجة عدم الاستثمار في التزامات هذه الدولة، وهو ما أدى إلى ارتفاع هوامش معدلات الفائدة على السندات اليونانية بصورة ملفتة، الأمر الذي ترتب عليه التأثير سلبا على البنوك اليونانية. وكانت هوامش معدلات الفائدة قد تحسنت بعد إبرام برنامج المساندة مع الصندوق وكذلك المساعدات التي قدمها البنك المركزي الأوروبي، وكما هو متوقع، انخفضت جودة محافظ القروض لدى البنوك اليونانية مع تراجع مستويات النشاط الاقتصادي، نتيجة ارتفاع نسبة القروض التي لا يتم خدمتها من قبل المدينين إلى إجمالي القروض من 7.7% في ديسمبر 2009 إلى 8.2% بنهاية مارس 2010.
الإجراء الطبيعي في مثل هذه الأوضاع هو ضرورة قيام المصارف باحتجاز المزيد من الاحتياطيات لمواجهة مخاطر تحول تلك الديون إلى ديون معدومة الأمر الذي يؤثر سلبا على ربحية القطاع المصرفي. كذلك انخفضت معدلات كفاية راس المال بالنسبة للنظام المصرفي كله من 13.2% إلى 12.9% على التوالي، على الرغم من أنها تتجاوز نسبة الـ 8% التي تطلبها الجهات الرقابية، وعندما يتم أخذ الاحتياطيات والضرائب في الاعتبار فان أرباح البنوك اليونانية تتحول إلى خسائر. غير انه لا بد من الإشارة إلى أن البنوك اليونانية تستفيد حاليا من "حزمة مساندة البنوك التجارية اليونانية" والتي تساوي 15 مليار يورو، بالإضافة إلى الضمانات التي قدمت في مايو، ودعم السيولة الذي يقدمه البنك المركزي الأوروبي، وهو ما يزيد من متانة الجهاز المصرفي اليوناني في ظل الأزمة.
ربما تكون أهم الجوانب الايجابية في تقرير الصندوق عن الاقتصاد اليوناني هو ما يتعلق بتطبيق حزمة الإصلاح المالي التي تم الاتفاق عليها مع صندوق النقد الدولي، فحتى إصدار التقرير تم تنفيذ كافة الإصلاحات التي تعهدت بها الحكومة اليونانية، الأمر الذي يتوقع ان يترتب عليه ارتفاع في الإيرادات العامة للحكومة، بل وتحقيق الحكومة لبعض الفوائض في النصف الثاني من هذا العام. كذلك يجري حاليا إصلاح نظام المعاشات التقاعدية والذي من شأنه أن يقلل تكاليف المعاشات في المستقبل بصورة كبيرة من خلال تخفيض معدلات الاستبدال في المتوسط ورفع سن التقاعد، وكذلك يجري حاليا إعادة تقييم النظام الاكتواري الوطني والذي من المتوقع ان يترتب عليه تخفيض الإنفاق على المعاشات ما بين 6.5% إلى 8.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وتشكل هذه التطورات أهم العلامات المضيئة في المجال المالي، غير أن الأداء المالي في بعض القطاعات مثل القطاع الصحي والضمان الاجتماعي والحكومات المحلية والمشروعات العامة ربما يتدهور نسبيا، وهو ما قد يشكل مصدرا للخطر على نجاح حزمة الإصلاح المالي.
كذلك هناك بعض التقدم الذي تحرزه الحكومة في مجال الإدارة المالية، حيث سيتم تقوية الوضع المالي العام من خلال تبني إستراتيجية سنوية للميزانية الحكومية قابلة للتطبيق لمدة 3 سنوات، والتي بمقتضاها سيتم وضع سقف في الأجل المتوسط على ميزانية الدولة، وكذلك تقوية الرقابة على الالتزامات المالية، وتحديث نظم المراجعة المالية، وتقوية مبدأ المحاسبة والشفافية، بما في ذلك إنشاء مكتب للميزانية في البرلمان، ونتيجة لهذه التطورات الايجابية فان الحكومة اليونانية تفكر حاليا في ان تقوم بطرح أذون خزانة حكومية في يوليو وأكتوبر من هذا العام، بالرغم من الظروف السوقية الصعبة، وذلك استنادا إلى أن الطلب على الأذون الحكومية ما زال مرتفعا من قبل البنوك اليونانية، على الرغم من ان طرح مثل هذه الأذون ربما لا يجد طلبا خارجيا عليها.
خلاصة التقرير الأولي لصندوق النقد الدولي عن اليونان هي أن اليونان قد حقق إصلاحات جوهرية في الجوانب المالية والتي ستساعد اليونان على وضع دينها العام تحت السيطرة، وتخفض من عجز الميزانية إلى الناتج المحلي الإجمالي، ومن ثم السيطرة على نمو الديون السيادية، على الرغم من ان برامج الإصلاح المالي لها تأثيرات سلبية على الاقتصاد اليوناني، بصفة خاصة تراجع معدلات نمو الناتج المحلي، وبلوغ معدلات البطالة مستويات مرتفعة جدا.