عندما بدأت في كتابة هذه السلسلة من المقالات بعنوان "عالم لا يتعلم من أزماته"، كنت أعلم أنني سأواجه مشكلة عندما أصل إلى هذه الحلقة عن انهيار 1929، وكيف لا, وهي المحطة الرئيسة للأزمات المالية العالمية، حيث تسبب انهيار سوق الأسهم في أعنف أزمة اقتصادية تعرض لها العالم في العصر الحديث.
ذلك أن أهم مشكلة تواجهني عندما أكتب عن انهيار 1929 هي كيفية الإحاطة بهذا القدر الهائل من التفاصيل عن الجوانب الفنية كافة للأزمة ومسبباتها ونتائجها، وإعادة عرض هذه التفاصيل بأسلوب مبسط للقارئ، وهي مهمة أراها صعبة جدا. ما سأعرضه هنا هو جهد المقل الذي يحاول تبسيط الأمور بأقصى قدر ممكن حتى يستطيع القارئ ذو الخلفية الاقتصادية المحدودة، أو دون خلفية، أن يستوعب حقيقة ما حدث في أشهر أزمة مالية مرت على العالم.
مرة أخرى, عندما نقرأ تاريخ الأزمات المالية في العالم بتمعن سنكتشف حقيقة مهمة للغاية، وهي أن هذه الأزمات غالبا ما تسبقها حالات رواج غير اعتيادي، وبمعنى آخر، علينا أن نتنبه إلى أننا عندما نعيش في فترة ازدهار ورواج, فمن الواجب أن نستعد ونتهيأ، لأن الانهيار قادم لا محالة في الطريق، لكن من يفكر في حدوث أي انهيار في ظروف قمة الفوران، بل من يكبح جماح القطيع الذي يجمح بلا توقف نحو المجهول، مشحونا بالتوقعات السائدة حول أن ما يحدث حاليا سيستمر إلى الأبد، وأنه لا شيء، أي شيء، يمكن أن يقف في طريق ارتفاع الأسعار نحو الارتفاع، أو العوائد نحو التزايد.
هذه التوقعات التفاؤلية غالبا ما تكون وقود المضاربة الذي يؤدي إلى الكارثة. لقد تجمعت في عام 1929 كل العناصر اللازمة لتكون فقاعة ضخمة لأسعار الأسهم، قبل أن تنعكس مجريات الأمور لتنفجر الفقاعة بصورة مدوية كلفت العالم خسائر فادحة على صعيد مستويات الناتج والدخول وفرص التوظيف ومستويات الرفاهية بشكل عام، وعلى مدى زمني طويل أطلق عليه الركود الاقتصادي العظيم.
كانت فترة العشرينيات من القرن الماضي قد شهدت نموا واضحا للاقتصاد الأمريكي, وذلك في أعقاب الحرب العالمية الأولى، واتسم هذا النمو بإدخال الأساليب التكنولوجية الجديدة، التي أشعلت نار المنافسة بين الشركات، وأدت إلى التأثير في هوامش الربح التي تحققها، وفي أنماط إنتاجها، بل في أسس قيامها وقدرتها على الاستمرار. وفي هذه الفترة، شهدت الولايات المتحدة امتداد خطوط الكهرباء، وانتشار الأفلام السينمائية، وانتشار إنتاج الراديو على نطاق واسع، وبدء عبور المحيط جوا، وبدء إنتاج السيارات على نطاق واسع في مصانع هنري فورد، وإنتاج أول صاروخ عام 1926، وأول فيلم ملون في 1928 ... إلى آخر هذه السلسلة الطويلة من الأحداث التاريخية المهمة. إنها ولا شك أخصب فترات التاريخ الأمريكي في الابتكار. بل لقد حدث تحول مهم جدا في سلوك الشركات, حيث أخذت في بناء معامل مستقلة للبحوث والتطوير.
على سبيل المثال قامت كل من "جنرال إليكتريك" و"ستنجهاوس" بتجميع براءات الاختراع التي تملكانها، وهو ما وصف في هذا الوقت بأنه محاولة لتكون احتكارا ثنائيا، وكانت تلك الفترة قد شهدت تسارع حالات الاندماج بين الشركات على نحو واسع لتكوين كيانات أقوى وأكبر قدرة على الإنتاج والمنافسة، غير أن الاستثمار المكثف في مجال البحوث والتطوير من قبل الشركتين أدى إلى تعزيز إنتاج الأدوات الكهربائية في الولايات المتحدة لعقود قادمة، ومن الناحية الفعلية كانت الابتكارات في مجال الإنتاج تتحول إلى ابتكارات للشركات (وليس للأشخاص، كما كان الوضع سابقا)، بصفة خاصة في الفترة من 1926، حيث تكثفت عمليات الابتكار على نحو غير مسبوق، وأخذت معدلات الابتكار للشركات إلى إجمالي الابتكارات في الارتفاع بصورة واضحة. كان السبب الرئيس لهذا النمو في معدلات الابتكار هو الاستثمارات في أقسام البحوث والتطوير التي تمت في أوائل القرن، حيث ازدادت أعداد أقسام البحوث والتطوير بنسبة 80 في المائة خلال الفترة من 1918 إلى 1929.
شهدت العشرينيات أيضا تراجع أسعار آلات الإنتاج التي تعمل بالطاقة الكهربائية بصورة جوهرية، نتيجة للابتكارات التي قامت بها "جنرال إليكتريك" وغيرها، وهو ما أسهم في دخول الاقتصاد الأمريكي مرحلة الإنتاج على نطاق واسع، ففي عام 1920 كان نحو 53 في المائة من الطاقة الميكانيكية في الولايات المتحدة مولدة بواسطة الكهرباء، وفي عام 1930 ارتفعت هذه النسبة إلى 78 في المائة، وتم إدخال خطوط النقل الكهربائي عالية الجهد، أو ما يطلق عليه كهربة الاقتصاد، وهو ما أدى إلى تخفيض تكلفة الطاقة الكهربائية, وفي الوقت ذاته توسيع نطاق الإنتاج في الاقتصاد.
من ناحية أخرى, أخذت مستويات الإنتاجية في الارتفاع مع زيادة الطلب على العمالة الماهرة, وكذلك قوة العمل المتعلمة. وأكثر من ذلك، فإن النمو السريع في السكان مكن الاقتصاد الأمريكي من أن يمتلك سوقا هائلة لكل هذه التقنيات الجديدة، وغالبا ما يطلق على فترة العشرينيات فترة نمو الإنتاجية، حيث كانت الإنتاجية الكلية لعناصر الإنتاج (الزيادة في الإنتاج التي لا ترجع إلى زيادة المدخلات مثل العمل أو رأس المال، وإنما ترجع إلى عوامل مثل التكنولوجيا أو نوعية رأس المال البشري ... إلخ) تتزايد بصورة غير مسبوقة، فخلال الفترة من 1919 كان معدل النمو في الإنتاجية الكلية لعناصر الإنتاج للقطاع الصناعي 5.3 في المائة، وهو ما يعادل ضعف معدل النمو خلال الفترة من 1948 إلى 1953، وهي من أفضل فترات النمو بعد فترة العشرينيات، وهو مما لا شك فيه يعد أداء مذهلا، ومثل هذا الأداء يفسر ببساطة هذه التوقعات التفاؤلية التي سادت في سوق الأسهم في تلك الفترة.
وفي نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت الضرائب المفروضة في الولايات المتحدة مرتفعة للغاية، فقد اقتضى دخول الولايات المتحدة الحرب ضرورة رفع معدلات الضرائب، حيث بلغ معدل الضريبة الحدي على الدخول التي تزيد على مليون دولار 77 في المائة، و60 في المائة على أرباح الشركات، و10 في المائة على الميراث الذي يتجاوز عشرة ملايين دولار، وعندما خرجت الولايات المتحدة من الحرب بدأت في تحقيق فوائض في الميزانية بلغت عام 1924 مليار دولار، ولذلك بدأ الحديث عن ضرورة إجراء إصلاح ضريبي بتخفيض معدلات الضرائب، وهو ما تسبب في حدوث حالة رواج كبير في الاقتصاد الأمريكي، ففي 26 شباط (فبراير) عام 1926 تم إجراء تخفيضات جذرية في معدلات الضريبة على الدخول إلى 1 في المائة على أدنى شريحة (عشرة آلاف دولار) وإلى 20 في المائة أعلى شريحة (ما يزيد على 100 ألف دولار).
وفي عام 1928 تم تخفيض الضريبة على الشركات إلى 12 في المائة. أدت هذه التخفيضات الضريبية إلى زيادة الحوافز نحو العمل وزيادة الادخار والاستثمار. باختصار مكنت التخفيضات الضريبية الاقتصاد الأمريكي من النمو خلال الفترة من 1922 إلى 1929 بمعدلات نمو حقيقي 4.7 في المائة سنويا، وانخفضت البطالة من نحو 6.7 في المائة إلى 3.2 في المائة، ومن ثم أخذت دخول الأفراد في التزايد وارتفعت رفاهية الأفراد في هذا الاقتصاد المتنامي، وازداد الدخل في الولايات المتحدة خلال الفترة من 1921 حتى 1923 بنسبة 10.5 في المائة في العام، ومن 1923 حتى 1929 بنسبة 3.4 في المائة سنويا، بالشكل الذي يجعل عقد العشرينيات بالفعل عقد النمو والازدهار، وعلى مدى السنوات من 1923 إلى 1929 انخفضت أسعار الجملة بنحو 0.9 في المائة في العام.
غالبا ما ينظر إلى عام 1927 على أنه العام الحرج في فهم فترة ما قبل الفقاعة في سوق الأسهم والانهيار الكبير الذي حدث في أواخر 1929. فقد انخفض معدل نمو الناتج من نحو 7 في المائة عام 1926 إلى أقل من 1 في المائة في 1927، ونتيجة لذلك بدأ "الاحتياطي الفيدرالي" بالدخول في عمليات مكثفة في السوق المفتوحة، أي بشراء السندات لتخفيض معدلات الفائدة لمساعدة قطاع الأعمال على استعادة النشاط، وفي 1927 قام "الاحتياطي الفيدرالي" أيضا بزيادة عرض النقود بصورة كبيرة, وانخفض الرصيد الذهبي، وهو ما أدى إلى تخفيض معدلات الفائدة قصيرة وطويلة الأجل، ما تسبب في زيادة الإقراض لأغراض المضاربة من خلال القروض التي تمنح لشراء أوراق مالية، وزيادة القروض لأغراض الاستثمار بواسطة البنوك، ونتيجة لذلك أخذت فقاعة الأسهم في الانتفاخ.
وعندما اتخذ "الاحتياطي الفيدرالي" عكس تلك الإجراءات برفع معدلات الفائدة ووقف الإقراض لأغراض المضاربة، تشكلت العوامل المساعدة على انهيار السوق.
غير أن هناك أيضا وجهة نظر حول دور العوامل الدولية كمحفز رئيس لخفض معدلات الفائدة في أمريكا، حيث قام "الاحتياطي الفيدرالي" بخفض معدل الخصم لمساعدة الدول الأوروبية، بصفة خاصة البنك المركزي لبريطانيا "بنك أوف إنجلاند"، الذي حاول العودة مرة أخرى إلى قاعدة الذهب عند مستويات تعادل ما قبل الحرب العالمية الأولى، وهو ما أدى إلى تحويل معدلات الخصم إلى مستويات متواضعة جدا لمساعدة الاسترليني، وارتفع بالفعل الاسترليني.
وفي إجابته عن أسئلة قدمها مجلس الشيوخ في مطلع 1931 عن سبب عمليات السوق المفتوحة التي تم إجراؤها في 1927 أشار "الاحتياطي الفيدرالي" إلى سبعة أسباب هي؛ مساعدة الدول الأوروبية على شراء المنتجات الزراعية الأمريكية، تقوية العملات الأجنبية، الحفاظ على قاعدة الذهب في أوروبا، تسهيل عملية إصدار السندات الأوروبية في الولايات المتحدة، تشجيع استعادة النشاط الاقتصادي لقطاع الأعمال، تخفيض معدل الخصم، والتأكد من انخفاض المستوى العام للأسعار، وهو ما يوضح في مجمله دور العوامل الدولية.
بدءا من 1925 حتى الربع الثالث من 1929، أخذت قيمة الأسهم في التزايد بشكل مستمر بنحو 120 في المائة في أربع سنوات، أي بمعدل نمو سنوي مركب 21.8 في المائة، وكان هذا النمو متوافقا مع طبيعة التغيرات الهيكلية التي شهدها الاقتصاد الأمريكي, التي سبقت الإشارة إليها، والازدهار الذي شهدته الولايات المتحدة والتوقعات بأن هذا الازدهار لا محالة سيستمر إلى الأبد، وعاما بعد عام تتحسن الأوضاع في سوق المال، على سبيل المثال في عام 1927 أعلنت 755 شركة زيادة في توزيعات أرباحها، وفي عام 1928 ارتفع هذا الرقم إلى 955 .. أما في الأشهر التسعة الأولى من 1929، فقد قفز هذا الرقم إلى 1436 شركة. كانت الأخبار المالية كافة في السوق حتى أيلول (سبتمبر) 1929 إيجابية، ويوما بعد يوم تنشر الصحف والمجلات المتخصصة في نشاط الأعمال أخبارا عن الأداء المتميز للاقتصاد الأمريكي. باختصار شديد لم يكن هناك على السطح ما يشير إلى قرب حدوث انهيار في الأشهر السابقة على تشرين الأول (أكتوبر) 1929، كما لم تنحرف الأسهم عن مسارها المفترض مع الأداء الاقتصادي الحقيقي في أمريكا.
غير أنه ينبغي الإشارة إلى أن بعض الكتاب يرون أن أسعار الأسهم في تلك الفترة، على الرغم من أنه كان ينظر إليها على أنها مرتفعة جدا، كانت بالفعل مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية، أخذا في الاعتبار القيمة الحالية لتدفقات الأرباح المستقبلية لتلك الأسهم، ومع ذلك فقد كانت أسعار بعض أسهم شركات المرافق، ترتفع بشدة على الرغم من أن تلك الشركات لم تقم بإجراء أي توزيعات للأرباح .. إنها القصة نفسها التي ستتكرر في كل انهيارات سوق المال فيما بعد. وقد كان التفسير المقدم لذلك هو أن شركات الخدمات ستستفيد من النمو الحادث في مبيعات المعدات الإلكترونية، ومن ثم كانت هذه الشركات تقوم بزيادة استثماراتها بدلا من توزيع أرباحها.
كما لم يكن عدد من المراقبين يرى أن المؤشر فيه فقاعة، بل إن بعض الاقتصاديين في هذا الوقت ادعى أن المؤشر يسير بشكل مناسب مع التحليل الأساسي في السوق، ومنهم الاقتصادي الشهير إرفنج فيشر .. وقد كان واحدا من المستثمرين بكثافة في سوق المال. كان إرفنج فيشر متفائلا على طول الخط، حيث كان يرى أن الإنتاجية في القطاع الصناعي في الولايات المتحدة تتزايد بمرور الوقت، خصوصا مع تزايد استخدام الكهرباء، لذلك كان يعتقد أن الأسهم في سوق المال مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية، وكلفته هذه النظرة بعد ذلك ثروته بالكامل، بما في ذلك منزله عندما حدث الانهيار، وخلال عام 1928 ازداد معدل توزيعات الأرباح إلى سعر السهم لـ 45 سهما من أسهم المنشآت الصناعية من نحو 12 إلى 14، وكانت هذه المستويات تعد مرتفعة في هذا الوقت، على الرغم من أن مثل هذه المعدلات تعد معقولة جدا بالنسبة لأسواق المال في يومنا هذا، على سبيل المثال بلغ معدل توزيعات الأرباح إلى سعر السهم لمؤشر "ستاندارد آند بور" في تموز (يوليو) 2003 نحو 33، أي نحو ثلاثة أضعاف تلك المستويات التي كانت سائدة قبل انهيار 1929، والواقع أن العائد المتوسط على الأسهم انخفض بصورة كبيرة خلال العشرينيات من نحو 6 في المائة في 1923 إلى أقل من 3 في المائة في أيلول (سبتمبر) 1929، لدرجة أنه في قمة الرواج الحادث في سوق المال كانت العوائد على الأسهم أقل من العوائد المحققة على أدوات الاستثمار الأقل مخاطرة مثل سندات الحكومة والشركات.
بحلول عام 1929 كانت النظرة السائدة أن السوق تتعرض لمضاربة مفرطة، لدرجة أنه في شباط (فبراير) 1929 أعلن "الاحتياطي الفيدرالي" أنه سيقيد استخدام عمليات الائتمان التي تساعد على المضاربة، وعندما أصبح هربرت هوفر رئيسا للولايات المتحدة أخذ على عاتقه مهمة محاربة المضاربة التي كان عدوا لها، وكتب في مذكراته أنه أرسل خطابات لكل رؤساء التحرير والمحررين في الصحف والمجلات لتحذير الجمهور من المضاربة ومن الأسعار المرتفعة للأسهم في البورصة.
هذا هو باختصار شديد المناخ الذي ساد في الولايات المتحدة قبل انهيار 1929، لكن كيف حدث الانهيار, وما مساره، وكيف سارت الأحداث بعد ذلك؟ هذا ما سنتناوله في الحلقة القادمة - إن شاء الله.
كتابات دائما متميزة .. شكرا دكتور وفي انتظار الجزء الثاني
لا أدري لماذا لم يظهر تعليقي على المقال صباح اليوم ! أرجو يا دكتور أن توضح من كان المستفيد من تلك المضاربات التي حدثت في السوق الأمريكي في ذلك الوقت وكيف تم محاسبتهم (طبعاً إذا تم ذلك) لك مني جزيل الشكر والتقدير وأنتظر الجزء الثاني على نار .
اشكر لك اثرائك لمعلوماتي بناء على ثقافتي المتواضعه هذه المواضيع لم تحظى باهتمام كبير من قبل الكتاب فاشكرك مره اخرى على تسليطك الضوء على مواضيع اعتقد انها تخفى على شريحة كبيرة من المجتمع
مميز دائما يادكتور.. كل الشكر على طرحك وسردك للأحداث التي شهدتها احد ابرز الأسواق العالمية..!! بالطبع السوق الامريكي خلال فترة ماقبل الكساد العظيم تحياتي لك