في عام 1925 أخذت الكتابات التشاؤمية عن عقارات الولاية تنتشر انتشار النار في الهشيم، على سبيل المثال حذرت مجلة «فوربس» من أن أسعار العقارات في فلوريدا ترتكز الآن على احتمال وجود عميل، وليس على القيمة الحقيقية للعقارات.
كانت الولايات المتحدة في العشرينيات من القرن الماضي تعيش نفس حالة الرخاء التي كانت تتمتع بها أوروبا في القرن الثامن عشر، حيث ارتفعت معدلات التوظف وتحسنت ظروف العمل بصورة واضحة، وازدادت المدخرات لدى الأسر، وتكونت الثروات لدى كثير من الأشخاص، وبدءا من 1920 بدأت حياة البذخ في أمريكا، وأخذت أسعار الأسهم في بورصة الأوراق المالية في الارتفاع على نحو سريع، وتحول كثير من المستثمرين إلى أثرياء، وكان هناك اعتقاد سائد بأن الرفاهية التي تعيشها الدولة ستستمر إلى ما لا نهاية، لذا شهد عقد العشرينيات أعظم فترات المضاربة في التاريخ الأمريكي، ولم ينته هذا العقد إلا بحدوث أزمتين متتاليتين مرتبطتين بفقاعتين، الأولى هي فقاعة أسعار العقارات في فلوريدا، وهي موضوع حلقتنا اليوم، والأخرى هي فقاعة سوق الأسهم في وول ستريت في نيويورك التي أشعلت الكساد العالمي الكبير، التي سنتناولها لاحقا بإذن الله.
بدأت القصة بتهافت المزارعين على شراء أراض في فلوريدا مدفوعين بطبيعة الجو الأدفأ في الشتاء في الولاية، ثم بدأ الهوس بأراضي فلوريدا ينتشر بمرور الوقت، وأخذ سعر هكتار الأرض في الارتفاع بصورة حادة حتى بلغ 1000 دولار للهكتار الواحد (وهو مبلغ كبير في هذه الأيام)، وبدأت عمليات استصلاح الأراضي تتم على نحو واسع لتوفير الأراضي التي يطلبها المضاربون بشدة.
من ناحية أخرى، ازداد إقبال الأفراد على قضاء العطلات في فلوريدا، حيث تحولت إلى واحدة من أكثر المناطق شعبية في الولايات المتحدة، وأصبحت المكان المفضل للأشخاص الذين يرغبون في قضاء عطلة الشتاء في المناطق الدافئة، ثم إلى ساحة للمتباهين في ذات الوقت بثرواتهم، وأخذ النشاط السياحي في التوسع في الولاية، وارتفعت مستويات النشاط الاقتصادي فيها تبعا لذلك.
وبسرعة غير مسبوقة في الولايات المتحدة قامت فلوريدا بإنشاء مجمعات للجولف، ومنتجعات للمتقاعدين، ومساكن لقضاء العطلات، وحمامات للسباحة، وانتشرت الشقق الفخمة في كل منطقة في الولاية تقريبا التي تم تسويقها جميعها بنفس السرعة، وانتشرت الكازينوهات غير القانونية، وحانات الشرب في ميامي، وبالطبع كانت المناطق القريبة من الشواطئ هي الأكثر تفضيلا، ودفع البالون أيضا فلوريدا إلى تطوير مزيد من الجسور والطرق والشوارع لكي تتماشى مع النمو في أنشطة سوق العقار، وأصبحت فلوريدا ملعبا للأثرياء والمشاهير، وساد في الولاية رواجا عظيما، وأصبح ينظر إليها على أنها مدينة فاضلة حقيقية على الأرض، باختصار كانت فلوريدا تحقق شعبية واسعة جدا في الولايات المتحدة، لدرجة أن شراء أي عقار في الولاية كان يضمن تحول المشتري في غضون فترة قصيرة جدا إلى مليونير.
حتى هذه اللحظة كان من الممكن لأي شخص أن يستثمر في فلوريدا، حتى دون أن تتوافر لديه الإمكانات التمويلية الكافية، وأصبحت عملية ضخ رؤوس الأموال في سوق العقار في الولاية وقودا لعملية المضاربة على العقارات، لدرجة أنه في عام 1922 تحولت جريدة ميامي هيرالد إلى أكثر صحف العالم ثقلا، بسبب الإعلانات الكثيفة عن العقارات في فلوريدا.
أخذ الناس في الشمال يسمعون عن أن أسعار العقارات تتضاعف ضعفين وثلاث أضعاف مسببة ما يعرف بأثر كرة الجليد، وبدأت الهجرة على نطاق واسع للولاية، وازدادت أعداد السكان فيها بصورة مستمرة، وهو ما أدى إلى تصاعد الطلب على المساكن بصورة تتجاوز إمكانات العرض المتاح منها، ساعد على ذلك توافر إمكانات التمويل، لدرجة أنه في أوج هذه الفورة العقارية تحول كل شخص في الولاية تقريبا إما إلى مستثمر في العقار أو وكيل عقاري، وعلى الرغم من تصاعد أعداد الوكلاء العقاريين على نحو كبير، فقد كان هناك طلب كاف لإبقاء هؤلاء الوكلاء مشغولين.
لم يتطلب الأمر وقتا طويلا لأخبار الولاية لكي تنتقل إلى باقي أطراف الولايات المتحدة، وأصبح الهم الشاغل لكل أمريكي هو أن يكون له حصة فيما يحدث في فلوريدا، وذلك لمضاعفة ثروته من خلال عقاراتها، من ناحية أخرى، أخذ التهور يزداد بين الأمريكيين الأثرياء، والذين حرص كل شخص منهم على أن يتملك أفخم عقار في الولاية.
يفترض أن يؤدي هذا الارتفاع غير الطبيعي في الأسعار إلى إبعاد الأفراد عن هذا المجال من مجالات الاستثمار، ولكن كما هو الحال في جميع الأزمات التي مرت على العالم، عندما يأخذ سعر أصل ما في التضاعف لضعفين أو ثلاثة أضعاف في غضون فترة زمنية قصيرة، فإن ذلك يكون مدعاة لجذب جميع أشكال المضاربين الذين يتوافدون إلى الساحة كالطيور العطشى على مياه النهر قبل الغروب، وبالطبع أخذت معهم رؤوس الأموال في التدفق إلى الولاية على نحو غير مسبوق، ومع تدفق رؤوس الأموال في سوق العقارات في الولاية أخذت فقاعة الأسعار في الانتفاخ.
لسوء الحظ، فإن قواعد اللعبة كانت وما زالت هي هي، عندما يقوم المضارب بضخ كمية كبيرة من النقود لشراء أصل أو سلعة، فإن عليه أن يقوم بأكثر من ذلك لكي يحقق أرباحا، وهو أن يحاول أن يدفع بالأسعار نحو الارتفاع بأي ثمن. في ظل هذا المناخ أخذت الأسعار ترتفع على نحو فلكي، فقطعة الأرض التي يتم شرائها في بداية العام بـ 800 ألف دولار كانت تباع في نفس العام بأربعة ملايين دولار، وكانت الأسعار منتفخة لدرجة أنه في عام 1926 يمكن شراء شقة بنحو 4.5 مليون دولار، وهو الثمن الذي كان يكفي لشراء بيت فاخر في ميامي.
في ظل هذه الأسعار الخيالية لم يعد في قدرة المستثمرين الجدد الدخول إلى السوق، وبدأ المستثمرون القدامى في البيع، وانتشر الذعر، وكما هو الوضع في الحالات المماثلة توقفت الأسعار في سوق العقارات عن الارتفاع.
في عام 1925 أخذت الكتابات التشاؤمية عن عقارات الولاية تنتشر انتشار النار في الهشيم، على سبيل المثال حذرت مجلة فوربس من أن أسعار العقارات في فلوريدا ترتكز الآن على احتمال وجود عميل، وليس على القيمة الحقيقية للعقارات. مع هذا التصاعد الخرافي في الأسعار بدأ قلق المضاربين من تراجع معدلات العوائد، في صورة ارتفاع الأسعار، وهو ما ولد نوعا من الذعر نحو البيع، وكما هو الحال في مثل هذه الأزمة، لم يجد البائعون أي مشتر بسبب الأسعار القياسية للعقارات التي تتجاوز إمكانات الجميع.
مع تراجع أعداد المشترين، أخذت الأسعار في التراجع، وفي غضون أشهر بدأت الفقاعة في الانفجار. هنا فقط أدرك المضاربون أن هناك حدودا للأسعار التي يمكن أن تصل إليها العقارات، ومن ثم بدأ يحدث انعكاس الاتجاه، من تكالب على الشراء إلى تكالب على البيع. لسوء الحظ أنه في ظل هذه الأسعار الفلكية للعقارات، كان هناك آلاف الطلبات للبيع، بينما لا يوجد مشتر واحد، حيث أصبح من الصعب وجود مشتر للعقارات، في ظل تلك المستويات الرهيبة للأسعار، وأيا كان الأمر، فإن الأسعار في ظل هذه الأوضاع لا بد وأن تهوي على نحو مدوي، وذلك مع اتجاه المدينين نحو التخلص من عقاراتهم لتلافي الإفلاس، وفي أغلب الأحول لم يجد البائعون المشترين، وانتشرت حالات الإفلاس بين المستثمرين بسبب القروض العقارية الضخمة على عاتقهم.
ساعد على انفجار الفقاعة في هذه الحالة هبوب إعصار تسونامي في فلوريدا (على غير العادة في هذه المنطقة)، والذي أدى إلى تدمير عديد من المنازل وخلف خسائر حادة في الممتلكات، وأخذت الأسعار في الانهيار بصورة أكبر بعد ذلك مخلفة حالات الإفلاس والتوقف عن الدفع المعهودة في كل الأزمات، وتحولت الولاية إلى مكان مقفر مهجور ومنعزل عن باقي أنحاء أمريكا، لدرجة أنه عندما حدث الكساد العالمي الكبير في عام 1929 لم تتأثر فلوريدا بالأزمة مثلما تأثرت باقي أنحاء أمريكا، لأنها كانت بالفعل في ظروف اقتصادية سيئة للغاية قبل حدوث الأزمة.
انهيار الأسواق غالبا ما يأتي على نفس الصورة، بغض النظر عن نوع السلعة أو الأصل الذي يتم التعامل فيه، حيث دائما ما تعمل نفس العوامل النفسية البسيطة في المساعدة على حدوث الأزمة. إذ لم ينظر أي من الذين تورطوا في الأزمة إلى الوراء للاطلاع على الأمثلة التي يمدنا بها التاريخ، ولهذه الحماقة يتحول هؤلاء في النهاية إلى فقراء بعد وقوع الأزمة، فمن لا يتذكر الماضي عليه أن يتحمل التكاليف المصاحبة لتكراره.
نفس هذه القصة تكررت بحذافيرها لاحقا عبر فترات زمنية كثيرة، وفي عديد من المناطق، آخرها ما حدث في دبي في العام الماضي، فقد كانت دبي تسير على نفس خطى فلوريدا العشرينيات، وتوافرت لها نفس الظروف من توقعات تفاؤلية باستمرار الارتفاع في أسعار عقارات دبي إلى ما لا نهاية، ورغبة حميمة في البناء بغض النظر عن التكلفة، مصحوبة بتوافر التمويل، وتدفق المستثمرين من جميع أنحاء العالم للاستفادة من الفرص التي تتيحها عقارات الإمارة، ونمو كبير في النشاط السياحي، حتى وقعت الأزمة المالية العالمية، فحدث ما نشهده اليوم في دبي. إنه بالفعل عالم لا يتعلم من أزماته.
الجدير بالذكر أنه في هذه الفترة كان يعيش في بوسطن أحد شياطين الاستثمار، وهو تشارلز بونزي الذي أتى بخطة جهنمية، عرفت بعد ذلك بخطة بونزي التي ستكون موضوعنا القادم إن شاء الله.
يعطيك العافية دكتور على هالمقال الممتاز .......العقار دائما يمر بفقاعات مدمرة وخصوصا في البلدان الغربية نتيجة الرفع المالي والاعفاءات الضريبية وفي البلدان العربية هو ايضا يمر بفقاعات كبيرة نتيجة للثقافة الشعبية التي تربط العقار بالأمان والوجاهه .....في السعودية حدثت فقاعة عقارية ضخمة في السبعينيات من القرن المنصر وتحدث الآن فقاعة اخرى . وفي مصر ايضا هناك فقاعة كبيرة في اسعار العقارات وخصوصا العقارات الفاخرة ....ماعليك الا ان تسأل عن اسعار العقارات في مصر الآن وتقارنها ببضع سنوات خلت لتجد اسعار متضاعفة اربعة او خمس مرات ........ عندما تبدأ الفقاعة فهي تؤثر على التوازن النفسي للافراد وتبدأ في دغدغة احلامهم ومن ثم ينساقون لها كالقطيع ......... نتمنى على سعادتكم الكتابة في قضايا الاقتصاد الاسلامي ...هل هو حقيقي ام صوري تقوم بعض المؤسسات بتغليف المتجات الغربية بصبغة اسلامية وذلك بغية ركوب مطية الدين للاستفادة منه .....فالقرض يسمى تمويل !!...والفائدة تسمى مرابحة ....وهذه الشركات تستعمل بينها نفس مصطلحات البنوك التقليدية ...مثلا القرض 200 نقطة اساس فوق الليبور وهكذا ...اللهم تغير مسميات ....هذه قضية شائكة وهي تتعارض مع المفهوم الشعبي السائد ( ثقافة القطيع) ولكن لابد من التصدي لها كما تصدى علماء الامة سابقا لخرافات العامة ......والتي من اخرها بان النقد له ثمنية الذهب وانه مستودع مطلق للثروة وبان النقد يقاس على الذهب!!
الله يعطيك العافية على هذة المقالات المفيدة
يعطيك العافية
هذا ردأ.د. محمد ابراهيم السقا على تعليق "شاري راسي": "شكرا مازن بالنسبة للفقرتين الاولى والثانية، ليس لدي خلاف كبير حول محتوى التعليق، ولكني أختلف مع فكرة أن العقار مرتبط بالوجاهة، العقار اصل استثماري، والوجاهة الاجتماعية ليست من المتغيرات المحددة للاقبال على الاستثمار في اصل ما، بقدر ما يرتبط الاستثمار بسعر الاصل وبتدفقات العائد المتوقع من الاصل ودرجة المخاطرة المرتبطة بالاصل ومعدلات الارتفاع المتوقعة في سعر الاصل، والفرصة البديلة للاستثمار في هذا الاصل... الى آخر هذه القائمة الطويلة من العوامل المؤثرة على الطلب على الاصول التي نقوم بتدريسها لطلبتنا في الجامعة. بالنسبة للجزء الثاني من التعليق فهو يدعوني الى الكتابة في مجال لست متخصصا فيه على النحو الذي أتجرأ فيه لطرح مثل هذه القضايا، أنا ان طرحت هذه القضايا فسوف أطرحها من المنطلق الفني وليس الشرعي، نعم لدي قراءات كثيرة ومكثفة في الاقتصاد والتمويل الاسلامي، ولكن أن تدلو بدلوك في مثل هذه القضايا يقتضي أن تكون متخصصا ليس فقط في مجال الاقتصاد، ولكن بصورة أكبر في الفقه والاستدلال الشرعي، والذي يتجرأ على الفتوى كالذي يتجرأ على النار، فكيف لي أن أتجرأ على تناول مثل هذه القضايا المثيرة للجدل. أتفق في أننا نعاني حاليا من مشكلة توافر متخصصين (على نحو كاف) لديهم خلفية شرعية رصينة، وفي ذات الوقت خلفية فنية تمكنهم من فهم آليات عمل أدوات التمويل بما يمكنهم من الحكم عليها من الناحية الشرعية. وحاليا تحاول جامعة الكويت توفير هذا المزيج الامثل من الخلفيتين الشرعية والفنية من خلال بكالوريوس مشترك سوف يتم تقديمه من قبل كلية الشريعة (التي تتولى تكوين الخلفية الشرعية لدى الخريج) وكلية العلوم الادارية (التي تتولى تكوين الخلفية الفنية لدى الخريج)، وقد اشتركت في اعداد البرنامج الاكاديمي للدرجة التي ستكون لدى خريج هذا البكالوريوس، بإذن الله، خلفية فنية قوية جدا في الاقتصاد الوضعي والتمويل والتأمين والرياضة والاحصاء واللغة ... الخ، وخلفية شرعية قوية جدا في القرآن والسنة والحديث والفقه والاحكام والاصول...الخ، ونأمل أن يبدأ البرنامج في اسرع وقت ممكن. مثل هذه الدرجات المتخصصة سوف تمكن خريجيها الذين يستكملون دراساتهم العليا في التخصص بأن يدلو بدلوهم في تطوير آليات التمويل الاسلامي على نحو شرعي وليعطونا آراء متزنة قائمة على أسس سليمة من الناحية الفنية والشرعية. هذا طبعا لا ينفي أن لدينا كم هائل من الفتاوى الصحيحة في هذا المجال. ولكن التمويل كمجال يخضع دائما للتطور السريع، ولكي يتنافس التمويل الاسلامي مع التمويل التقليدي، فلابد للأخير أن يطور نفسة، والاهم أن يتم ذلك بصورة صحيحة لا تخالف الشريعة. أذكر منها ما يشير إليه التعليق باستخدام "الليبور +" كمعدل للعائد. وقد حاول أحد البنوك الكبرى اعداد مشروع دراسة لتقديم قياسات شرعية للعائد بدلا من اللجوء الى "الليبور +"، وقد دعيت الى الاشتراك في هذه الدراسة ولم اتمكن لضيق الوقت، وتوقف المشروع بعد ذلك. أختلف مع التعليق فيما ذهب إليه بأن "فالقرض يسمى تمويل !!…والفائدة تسمى مرابحة.. الخ"، فهذه المصطلحات لها تعريفات محددة في مجال التمويل الاسلامي وليس بالصورة التي يعرضها التعليق، كما ان المقارنة بين الذهب والنقود تحتاج من المعلق (إذا لم يكن يؤمن بالفتاوى التي اصدرت في هذا المجال) ان يقرأ بشكل متعمق في مجال النقود، بصفة خاصة حول مفهوم النقود وأشكالها ووظائفها... الخ، عندها سيجد أن القضايا التي يعترض عليها صحيحة. شكرا مازن"
مبدع بكتاباتك دكتور محمد..!! فعلا نحن في السعودية نواجه نفس الفقاعه تخيل ان سعر متر الارض يرتفع باليوم ؟؟ حتى يصل نطاق الا معقول ولين يكون هناك مشتري..!! تحياتي