الإنفاق العسكري يعد أحد الجوانب الهامة في ميزانيات دول العالم، بصفة خاصة الدول التي تتعرض للضغوط على حدودها أو التهديدات المحتملة، مشكلة الإنفاق العسكري أنه يتم على تجهيزات مكلفة للغاية، وتتعرض للتقادم بشكل سريع جدا، بمعنى آخر فان الجيوش التي تحرص على ان تتسلح بأحدث الأسلحة عليها أن تجدد معداتها العسكرية بصورة سريعة جدا وأن تتخلص من معداتها التي تقادمت (تقنيا) بسرعة حتى تضمن أنها مسلحة بآخر ما توصل إليه العلم في هذا المجال، حيث تتسارع الابتكارات والاختراعات في مجال الأسلحة والمعدات العسكرية على نحو مقلق، وبحيث أصبحت صناعة السلاح من الصناعات الهامة جدا على المستوى العالمي.
للأسف ازدهار صناعة السلاح يقتضي أن تكون هناك مناطق نزاع، أو مناطق ساخنة في العالم، أو تهديدات مستمرة بنشوب حروب في العالم، وهذه لا تعدمها صناعة السلاح العالمية حاليا، فما من بقعة في العالم إلا وفيها نقطة ساخنة، وقد يعمل أباطرة السلاح على نفث سمومهم في تلك المناطق حتى يضمنوا ازدهار هذه الصناعة. المشكلة الأساسية هي أن عملية تحديث الجيوش تلقي بأعباء ضخمة على الميزانية العامة للدولة، وفي الدول التي تعاني من عجز في ميزانياتها، على الدين العام للدولة الذي غالبا ما يكون مرتفعا لتأمين هذه الاحتياجات. مشكلة الإنفاق العسكرية أنه غير قابل للتأجيل أو التجزئة، مثله مثل الإنفاق الاستهلاكي، بل إن الإنفاق الاستهلاكي يمكن ترشيده، بينما الإنفاق العسكري يصعب تخفيضه ما لم تخفف الدولة من طموحاتها حول مستويات استعدادها العسكري، أو تقلل من درجة جاهزية جيوشها للدفاع في مقابل الآلة العسكرية لأعدائها المحتملين.
وإذا أرادت دولة ما ان تحافظ على إنفاقها العسكري مرتفعا، فإن عليها أن تجد مصادر تمويل هذا الإنفاق إما بتخفيض جوانب الإنفاق الأخرى، أو من خلال الاعتماد على الاقتراض سواء المحلي أو الخارجي لتمويل هذا الإنفاق، المشكلة هي ان الجانب الأكبر من الدين الذي سينشأ بسبب الإنفاق العسكري هو دين خارجي، حيث أن واردات السلاح لا بد وأن تدفع بالعملات الأجنبية وليس بالعملة الوطنية. ولقد عاصرت أحداث شبيهة في مصر في أوقات ما بين هزيمة يونيو وحرب 1973، حيث كنت أرى البنى التحتية المصرية تنهار، سواء بالنسبة للطرق أو خدمات الكهرباء أو المجاري.. الخ، وذلك في ظل الشعار الذي كان مرفوعا في ذلك الوقت "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، حيث كانت كل الموارد موجهة نحو الصراع مع العدو الإسرائيلي، كذلك أخذت مستويات المعيشة تتدهور على نحو واضح، بعد المكاسب التي حققتها الطبقات المختلفة من الشعب المصري في ظل السياسات التي تبنتها حركة يوليو 1952، وعلى الرغم من المعونة العربية السخية التي قدمت بشكل سنوي بمقتضى مؤتمر الخرطوم الذي عقد في أعقاب النكسة حتى عام 1974 تقريبا، إلا أن ذلك لم يحل دون تدهور الأوضاع المالية العامة لمصر على نحو واضح ولم يحل دول تكوين دين عام ضخم، بمقاييس تلك الأيام.
هنا في الخليج أيضا نواجه نفس المشكلة خصوصا وأننا نعيش في بقعة ساخنة جدا من العالم، وحيث تقبع أكبر احتياطيات النفط في العالم، فإن العالم، وبصفة خاصة الولايات المتحدة، يحرص دائما على تأمين امدادات النفط الى الأسواق العالمية بدون تهديد لتلك التدفقات. وكجزء من الترتيبات اللازمة لذلك فإن دول الخليج أيضا تجد نفسها مجبرة على شراء اسلحة، ربما لا تستعملها أبدا، انطلاقا من المخاوف الأمنية التي يمكن أن تتعرض لها نتيجة لوقوعها في هذا الموقع الاستراتيجي عالميا. مثل هذا الانفاق من الخليج وغير الخليج يضمن تشجيع صناعات السلاح الكبرى في العالم ويساعد على تمويل ميزانيات البحث والتطوير في مجال التسلح على المستوى العالمي.
الجدول التالي يوضح نسبة الإنفاق العسكري إلى الناتج المحلي الإجمالي في بعض دول العالم، لاحظ من الجدول ان الولايات المتحدة تتصدر دول العالم من حيث نسبة الإنفاق العسكري إلى الناتج المحلي الإجمالي بها، فهي تنفق 4% سنويا من ناتجها المحلي الإجمالي الذي يزيد عن 14 تريليون على آلتها العسكرية، وفي ظل عجز كبير في الميزانية العامة للولايات المتحدة، فإن هذا الانفاق يعقد من أوضاع دينها العام المتصاعد في ظل العديد من الضغوطات المالية ذات المصادر المختلفة سواء الاقتصادية أو العسكرية. وكقوة عظمى تجد الولايات المتحدة نفسها أما خيارين أحلاهما مر، الأول هو ان تتنازل عن تفوقها العسكري في مقابل القوى العسكرية الأخرى في العالم وتقلل من إنفاقها العسكري الضخم الذي يعد نكبة بالنسبة للعالم وكذلك بالنسبة لها، ومن ثم تتنازل عن قيادتها للعالم في هذا المجال، والثاني هو أن تستمر في الحفاظ على معدلات إنفاقها العسكري مرتفعة كما هو الوضع الآن، ولكن عليها أن تعيش مع دين عام ضخم وان تتحمل الأعباء التي تصاحبه. حتى الآن من الواضح ان الولايات المتحدة عازمة على الاتجاه نحو الخيار الأول، ومن ثم فإن عليها ان تتعايش مع الآثار المصاحبة لدين عام ضخم وانفاق عسكري كبير سويا.
نسيت الجدول يا دكتور