قبل فترة اشتريت هاتف جوّال جديدا، وقد دهشني مقدار التطور التقني والعدد الكبير من المزايا فيه، ولكن ما أذهلني بشكل أكبر هو ملاحظتي أن عدداً كبيراً من الناس يمتلكون هواتف مماثلة، على اختلاف أوضاعهم المادية والاجتماعية. فأخذت أفكر كيف أن عديدا من مميزات ومنافع العصر الحديث ورفاهياته أصبحت متاحة لمختلف الناس على تباين مداخيلهم وأوضاعهم المالية، بعد أن كانت في قرون مضت حكراً على صفوة الناس وأكثرهم مالاً، فاكتشفت أن المعجزة التي جعلت ذلك ممكناً هي فكرة التكاليف الثابتة، حيث يمكن تقسيم تكاليف إنتاج أي شيء إلى تكاليف ثابتة ومتغيرة، فالتكاليف المتغيرة هي التي يتحملها البائع مع كل بيع يقوم به (كتكلفة الفواكه والخضراوات بالنسبة لصاحب مطعم)، وبالتالي يمكنه إرجاؤها إذا لم يحقق مبيعات، بينما التكاليف الثابتة هي تلك التي يتحملها البائع مرة واحدة سواء حقق المبيعات أم لم يحققها (كتكلفة بناء مصنع).
ومن الملاحظ أنه في قديم الزمان، كانت معظم التكاليف متغيرة، أي أن التكاليف كانت تتعلق بعملية الإنتاج مباشرة، فعلى سبيل المثال، كان صُنع معطف يتطلب شراء قماش وخيوط وأزرار وتطريزا وقضاء مدة كافية لخياطة المعطف، ما يعني أن تكلفة الإنتاج تكاد تكون متقاربة سواء تم إنتاج معطف واحد أو ألف معطف.
ولهذا فقد كانت معظم رفاهيات الحياة في قديم الزمان مقصورة على الملوك والوجهاء، وذلك نظراً لارتفاع قيمتها وعدم القدرة على تخفيض تكلفتها بالاستناد إلى أسلوب الإنتاج المبني على التكاليف المتغيرة.
ولكن مع قيام الثورة الصناعية، ظهرت فكرة ''خط الإنتاج'' والمصانع التي لحقتها، ومعها توسع نطاق التكاليف الثابتة، حيث أصبح رجل الأعمال يتكبد مبلغاً كبيراً في البداية لبناء المصنع، ومن ثم فإن تكلفة إنتاج أول معطف تكون كبيرة جداً، ولكنها تتناقص بسرعة مع كل معطف إضافي يتم إنتاجه، وذلك لأن تكلفة المصنع يمكن تحميلها على عدد أكبر وأكبر من المعاطف، والتي يتم إنتاجها بسرعة وكفاءة شديدتين.
ومع قدوم الثورة المعلوماتية، توطد مفهوم التكاليف الثابتة، حيث أصبحت تكاليف الشركات تتركز على أعمال تطوير وتصميم المنتجات الجديدة وتحديد مواصفاتها بشكل دقيق، والتي تعد من قبيل التكاليف الثابتة. ولكن ما أن يتم الانتهاء من تصميم منتج جديد بالكامل حتى يدخل دورة الإنتاج ليتم تصنيعه بتكلفة متغيرة زهيدة (ولهذا نجد أن هواتف الآي فون، على سبيل المثال، يتم إنتاجها في الصين بتكلفة منخفضة لأن العنصر ذي القيمة فيها هو التصميم والذي يتم إنجازه في كاليفورنيا بالولايات المتحدة)، ومع كل قطعة إضافية يتم إنتاجها يمكن توزيع التكلفة الثابتة للتطوير والتصميم على عدد أكبر من الوحدات مما يخفض تكلفة الإنتاج أكثر فأكثر.
هذه النقلة الاقتصادية من أسلوب التكاليف المتغيرة إلى أسلوب التكاليف الثابتة كانت ذات أثر كبير في حياة البشر. ففي العصر الذي سادت فيه التكاليف المتغيرة ظلت تكلفة الإنتاج عالية على الرغم من عدد الوحدات التي يتم إنتاجها، مما كان يحصر كثيرا من المنتجات على فئة معينة من صفوة المجتمع. أما مع التوسع في التكاليف الثابتة فأصبحت تكلفة الإنتاج تبدأ عالية ولكنها سرعان ما تنخفض لتصبح في متناول شريحة أكبر من المجتمع. وهذه هي معجزة التكاليف الثابتة التي مكّّنت من إيصال الكم الأكبر من المنتجات لعامة الشعب وليس قصرها على فئة معينة، بدءاً من الإلكترونيات ووصولاً إلى الأدوية والأمصال.
ولكن الوجه الآخر لهذه ''المعجزة'' هو أنه ينبغي تكبد تكاليف عالية قبل إنتاج قطعة واحدة من المنتج، مما يزيد معدّل المخاطرة على رجل الأعمال ويهدد عمله بالفشل إذا كان قد قام بتكبد تلك التكلفة الثابتة العالية في سبيل إنتاج منتج غير مناسب. هذا بدوره زاد من أهمية أبحاث السوق واستطلاعات الرأي، والتي على أساسها أصبح عديد من رجال الأعمال يغامرون بالملايين.
ومن هذا العرض الموجز، لنا بالنتائج التالية:
• يجب عليك عند الاستثمار في أي شركة أن تفهم هل هي تستند إلى التكاليف الثابتة (كالصناعة) أو المتغيرة (كالتجارة) بشكل أكبر، فكل منهما يعمل بشكل مختلف؟
• التكاليف المتغيرة تضمن في العادة هامش ربح جيد منذ فترة مبكرة من المشروع (ولذا فهي أقل مخاطرة)، ولكنها لا تضمن ميزة نسبية لصاحبها من المنافسين بقدر التكاليف الثابتة، ولا يمكن معها زيادة المبيعات والنمو بسرعة.
• بالمقابل، فالتكاليف الثابتة تعطي صاحبها ميزة نسبية عن منافسيه في اقتصاديات الحجم، كما أنها تعني سرعة الإنتاج وانخفاض قيمته كلما استمرت مدته، مما يعجّل النمو ويزيد الربحية مع ازدياد الحجم. ولكن التكاليف الثابتة تتسم بقدر أعلى من المخاطرة، سواء إذا أسيء تقدير المنتج وتصميمه أو إذا انخفض الإنتاج لكان دون مستوى التكاليف الثابتة.
منقول عن جريدة الاقتصادية
كلما قلتْ حصة التكاليف الثابتة من إجمالي تكاليف المنتج، كلما زادتْ مناعة الشركات ضد مخاطر الإفلاس عند دورات الركود الإقتصادي!!!