نشر روبرت مالثاس مؤلفه عن أساسيات السكان محاولا دحض وجهات النظر التفاؤلية حول النمو السكاني. ومن وجهة نظر مالثاس فان المشكلة الأساسية التي يواجهها الإنسان تتمثل في أن قدرة الإنسان على التكاثر تفوق قدرة الأرض على إنتاج الحد الأدنى الضروري من الغذاء للإنسان (حد الكفاف). ولشرح فكرته الأساسية عن اختلاف معدلات النمو بين السكان والموارد، افترض مالثاس أن السكان يتزايدون على شكل متوالية هندسية، بينما يتزايد حد الكفاف من الغذاء على شكل متوالية عددية. ونظرا لاختلاف طبيعة عملية النمو بين السكان والغذاء تنشأ ما يسمى بفجوة الغذاء. وبحكم قانون حياتنا الطبيعية والذي يجعل من الغذاء ضرورة لحياة الإنسان، فأن فجوة الغذاء سوف تتحكم في قدرة الإنسان على النمو على سطح الأرض، حيث يتحدد الحد الأقصى لعدد السكان عند مستوى حد الكفاف.
ذلك أن زيادة أعداد السكان عن هذا الحد سوف تؤدي إلى انتشار سوء التغذية وبالتالي ارتفاع معدلات الوفيات بالشكل الذي يكفل العودة بمستوى السكان إلى حده الأقصى الذي يسمح به مستوى حد الكفاف. على أن مالثاس كان يعي أن سوء التغذية نادرا ما يعمل بشكل مباشرعلى التأثير على أعداد البشر لان هناك عوامل أخرى تتحكم في النمو البشري، والتي قسمها إلى مجموعتين: المجموعة الأولى أطلق عليها عوامل الحد الايجابية وتضم كل مسببات الوفاة مثل الحروب والإمراض والأوبئة والمجاعات الخ، والمجموعة الثانية والتي أطلق عليها عوامل الحد الوقائية وتضم هذه المجموعة من الناحية النظرية كافة أشكال تحديد النسل التي يقوم بها الإنسان طواعية للحد من أعداده.
وقد أعتقد مالثاس أن الفقر هو الأثر الطبيعي للنمو السكاني، فقد آمن مالثاس بان الناس لديهم اتجاه طبيعي نحو الإنجاب وأن الزيادة في عرض الغذاء لا يمكن أن تساير النمو السكاني. حيث يدفع التضخم السكاني (معبرا عنه بارتفاع معدل البطالة) بالأجور إلى الانخفاض، ومن ثم انتشار الفقر. الفقر إذن يعد جزءا من القانون الطبيعي للسكان وفقا لمالثاس. وبمعنى أخر فان الزيادة في عرض الغذاء سوف تعني في النهاية مزيدا من السكان يمكن أن يعيشوا فقط في حالة من الفقر. وقد بدأت الانتقادات لمالثاس منذ اللحظة الأولى التي خرج فيها مؤلفة عن السكان إلى الوجود عام 1798، والتي تتمثل في التأكيد على أن زيادة إنتاج الغذاء لا يمكن أن تجارى الزيادة في أعداد السكان، والتي نبعت من نظرة مالثاس التشاؤمية حول النمو السكاني وعدم إيمانه بالتطور التكنولوجي، وقد أثبت الواقع أن النتيجة النهائية للتطور التكنولوجي والابتكارات البشرية هي مستوى أعلى من المعيشة وليس مستوى متدني لها.
ومن المؤكد أن الزيادة التي حدثت في أعداد السكان في العالم في الخمسين سنة الماضية تمثل زيادة غير مسبوقة في التاريخ، كما انه من المعتقد ألا يتكرر في المستقبل هذا النمط السريع من النمو السكاني، فقد تزايد حجم السكان في العالم من حوالي 2.5 مليار نسمة عام 1950 إلى حوالي 6.7 مليار نسمة عام 2007. وقد تركزت هذه الزيادة السكانية أساسا في الدول النامية، حيث يوجد حالي 1.2 مليار نسمة في دول العالم المتقدم، بينما يوجد حوالي 5.5 مليار نسمة في الدول النامية، الجانب الأكبر منهم في آسيا، ومن المتوقع أن يستمر النمو السكاني في العالم نحو التزايد، ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة يتوقع أن يصل عدد السكان وفقا لسيناريو النمو المتوسط إلى حوالي 9.2 مليار نسمة عام 2050.
هذا النمو السكاني سوف يتركز فقط في الدول النامية، حيث يتوقع أن يثبت عدد سكان الدول المتقدمة عند 1.2 مليار نسمة عام 2050، بينما يتوقع أن يتزايد عدد السكان في الدول النامية إلى حوالي 8 مليار نسمة. ومن ثم سوف يستمر النمو السكاني في المستقبل متركزا في الدول المرتفعة السكان حاليا، وفي عام 2050 سوف يكون هناك حوالي نصف سكان العالم في ثمان دول فقط هي الهند والصين وباكستان وبنجلاديش والولايات المتحدة ونيجيريا والكونغو وأثيوبيا. أكثر من ذلك من المتوقع أن يرتفع توقع الحياة عند الولادة (عدد السنوات المتوقع أن يعيشها الفرد في المتوسط عند ولادته) على المستوى العالمي من 67 عاما عام 2007 إلى 75 عاما في عام 2050، وبالنسبة للدول المتقدمة يتوقع ارتفاع توقع الحياة من 77 عاما حاليا إلى 82 عاما في عام 2050. أما بالنسبة للدول النامية فمن المتوقع أن يرتفع توقع الحياة من 65 عاما حاليا إلى 74 عاما في عام 2050، أي أن كل المجتمعات السكانية في العالم سوف تميل إلى أن تكون مجتمعات سكانية كبيرة السن.
التاريخ الحديث للسكان يثبت إذن أنه ولفترة طويلة من الزمن استطاع العالم أن يستوعب هذه الزيادات الهائلة من السكان دون أن ترتفع معدلات الوفيات، على عكس ما توقع مالثاس، وبدا من الواضح أن مخاوف مالثاس حول النمو السكاني أصبحت جزء من تراث الماضي، وان النمو التكنولوجي الهائل الذي يعيشه العالم حاليا، بصفة خاصة في مجال الهندسة الوراثية قادر على فك قيد الغذاء المصاحب للنمو السكاني.
غير أن ضغوط النمو السكاني العالمي يبدو أنها كانت راكدة تحت السطح ويبدو أنها في طريقها إلى الانفجار مع أول أزمة موارد يتعرض لها العالم. العالم حاليا يتعرض لأزمة غذائية، حيث أخذت أسعار الحبوب الغذائية بصفة خاصة في الارتفاع بشكل كبير، نتيجة تغير أنماط التغذية في أكثر دول العالم سكانا، الهند والصين, وتزايد عمليات تحويل الحبوب الغذائية إلى وقود حيوي بسبب ارتفاع أسعار النفط، ، هذا فضلا عن عوامل أخرى خاصة العوامل المناخية وقيود نمو القطاع الزراعي في الدول النامية. باختصار العالم الآن مهدد بشكل اكبر من أي وقت سبق بانعكاسات أزمة الغذاء العالمي على مستويات الفقر وانتشار سوء التغذية ومن ثم ارتفاع معدلات الوفيات، في دول العالم الفقير، وهي نفس توقعات مالثاس في نظريته عن النمو السكان، فهل تتحقق نبوءة روبرت مالثاس؟
بارك الله فيك دكتور مقالات رائعه وممتعه وهادفه
شكرا عبد الله على متابعتك