«الرائد في قطاعه هو من يهتز خلال الأزمات.. لكنه لا يقع» كارلوس غصن.
يضحك اغلب المستثمرين في الكويت عندما تحدثهم او تسألهم اليوم عن حوكمة الشركات.يجيبونك: «انت فين والحب فين»، على اعتبار ان تعافي الشركات من تداعيات الازمة على رأس سلم اولوياتهم، لا اكثر ولا اقل.
تطرح سؤالا آخر على هؤلاء: وما سبب الدمار الذي شهدته بعض الشركات في نهاية 2008 وخلال كامل عام 2009؟ يأتيك جواب واحد وحيد موحد: انها تداعيات الأزمة المالية العالمية.
هذه الازمة باتت شماعة يعلق عليها الجميع اسباب انهيار البورصة، وتعثر شركات استثمار، وانكماش سوق الائتمان، وتدهور اوضاع الاصول، وجفاف مصادر السيولة، وتراجع ثقة المستثمرين، وتوقف عجلة المشاريع، وهبوط تداولات العقار، وغيرها من المشاكل التي لا تعد ولا تحصى كلها سريعاً.
شماعة استغلتها شركات كثيرة وبنوك لتبرير خسائر اصابت دفاترها، واخفاء اخطاء ارتكبت في الماضي بحق عملاء ومساهمين وسوق ورأي عام. اخطاء تدفع مؤسسات اليوم ثمنها، بعد ان اسقطت الازمة اقنعة وكشفت قطباً مخفية عديدة في القطاع الخاص الكويتي.
تعبير مضحك مبكٍ.
ولعل من أبرز هذه الأخطاء التي أسخنت جراح القطاع المالي والاستثماري في البلاد عدم تطبيق الحوكمة. هذا التعبير المضحك المبكي في آن معا.
ففي حين يعتبر البعض الحوكمة مفهوما نظريا غير ملزم للشركات والبنوك، يعتقد البعض الآخر ان غياب الحوكمة في البلاد هو أحد أبرز أسباب الأزمة التي أوصلت الأمور إلى ما وصلت اليه.
يقول أستاذ الاقتصاد في جامعة كيلوغ الاميركية البروفيسور رافي جاغاناتان، احد واضعي مصطلح «أكبر من أن يسقط» Too Big To Fail، ان الازمة المالية ليست المرض نفسه بل هي اعراض المرض فقط.
فالمرض بحسب عدد كبير من الخبراء العالميين، يتمثل بممارسات الشركات والبنوك نفسها، طوال الأعوام الماضية، والتي ابتعدت اشواطا عن المهنية والأخلاق المهنية والحوكمة، وهذا ما ينطبق ايضا على عدد لا بأس به من الشركات الكويتية التي مازالت بعيدة كل البعد عن تطبيق مفهوم الحوكمة.
في مايو عام 2004، أصدر بنك الكويت المركزي تعميما الى جميع البنوك وشركات الاستثمار الخاضعة لرقابته حول مبادئ الادارة السليمة والحوكمة في المؤسسات المالية، ويعتبر في التعميم ان الحوكمة تقوم على حماية حقوق المساهمين ومعاملتهم بالتساوي، واحترام وحماية مصالح الأطراف الأخرى ذات العلاقة، وتحديد مسؤوليات مجالس الادارة والادارات التنفيذية، بالاضافة الى الافصاح والشفافية، والتأكيد على وظائف التدقيق الداخلي والخارجي ولجان التدقيق.
هذه الأساسيات، التي لم تطبق في عدد من الوحدات التي تخضع لرقابة المركزي والتي هي متعثرة الآن ولا في معظم بقية الشركات، ضربت الثقة في مدى سلامة الادارات في هذه الشركات ومدى صحة نتائجها المالية المعلنة، وهنا بيت القصيد.
فمسألة «الضحك على الذقون» ببيانات طنانة رنانة وتصريحات وردية تصف وضع المؤسسات بالممتاز، ما عادت تنطلي على كثيرين، اللهم الا بسيطي الفكر.
وبسبب غياب الحوكمة لم تكن حقوق المساهمين مصانة، ولا قواعد الشفافية مطبقة، وتضاربت المصالح حتى كادت تنفجر. وفي ما يلي بعض الأمثلة عن نتائج عدم تطبيق الحوكمة في البلاد:
1 - فصل الإدارة عن الملكية
أكثر من %90 من شركات الكويت، من يملك الأكثرية فيها يدير. وهذا من الأخطاء الشائعة في الشركات المساهمة. ففي الأزمة الحالية، طفا على السطح مشاكل كثيرة بسبب عدم تطبيق الفصل بين الملكية والادارة. وها هي مجالس ادارات عدد من البنوك تنقلب رأسا على عقب. بعضها تغير دون ضجة اعلامية تذكر، وبعضها الآخر هز الوسط المصرفي.
فمجالس الادارات هذه كانت تسمح او تتغاضى أو لا تعلم شيئا عن قروض وتمويلات كيفما اتفق، ان تلبية لرغبة كبار الملاك، او طمعا بعوائد مرتفعة، ليعود المجلس بعدها الى الجمعية العمومية مفتخرا بالأرباح التي حققها بفضل الائتمان. وعندما حلت الأزمة في كل بيت، كشفت المستور وأظهرت أن بعض التمويلات ما هي الا قروض خردة أو مايعرف بالــ Junk Credit، أي انها منحت لغير مستحقيها ومن دون ضمانات كافية.
لذا اضطرت هذه البنوك لتجنيب مخصصات اكبر من طاقتها، فتكبدت دفاترها خسائر، على الرغم من تحقيقها ارباحا تشغيلية تفوق المحقق في الأعوام الماضية.
2 - الإفصاح والشفافية
يعول كثيرون على هيئة سوق المال المزمع انشاؤها لتعزيز مستوى الشفافية الذي وصل الحضيض خلال الأعوام الماضية. فلولا اجتهادات بعض الصحف في الكويت، لما شعر الرأي العام مثلا بأن هناك ازمة مالية في البلاد.
والافصاح عن المعلومات مسؤولية ذات 3 اضلاع هي الشركات المساهمة والبورصة والمساهمون انفسهم. واذا لم يَسأل او يُسأل هؤلاء الثلاثة، تبقى «الطاسة ضايعة» و«كلو تمام يا مدام». وتلعب بعض وسائل الاعلام احيانا دور المضلل في بعض الحالات. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يتم تخفيض التصنيف الائتماني لبنك ما، تتغاضى بعض الصحف عن نشر الخبر، خصوصا اذا كان البنك معلنا كبيرا او بينه وبين ملاك الجريدة مصالح مشتركة، وهذا خطأ.
غير ان بعض الصحف تشوه الحقائق وتنشر الجزء الايجابي من تقرير وكالة التصنيف، متناسين ان الخبر الاساسي هو تخفيض التصنيف، وهذا خطأ اكبر. فمثل هذا التشويه يضلل المستثمرين والمساهمين ويبعدهم عن الوضع الحقيقي للبنك او الشركة المساهمة، وما اكثر هذه الحالات في اعلام «اله.شّ.ك ب.شّك».
3 ـ حقوق المساهمين ودور العموميات
تساوي الحوكمة بين حقوق المساهمين جميعا مهما كبرت او صغرت ملكياتهم. ولكن للاسف، لا حوكمة ولا ممارسة حقوق في عدد لا بأس به من شركات الكويت. فاغلب الجمعيات العمومية، وهي «الهايدبارك» الرئيسي، حيث يجب على المساهم التعبير عن رأيه، تنتهي في 10 دقائق بعد المصادقة على جميع البنود المطروحة. لا اسئلة، لا أجوبة، لا نقاش، لا جدال، لا تحفظات. وعدم فصل الملكية عن الادارة تزيد هنا الطين بلة، فكبار الملاك يسيطرون على التصويت، شاء من شاء وأبى من أبى.
لذا يجدر السؤال عن السلطات ودورها هنا في تطبيق الحوكمة، وعلى صغار المساهمين ممارسة دورهم مهما كانت النتائج المتوقعة. فاسماع الصوت مرة بعد مرة قد يؤتي بالثمر المطلوب.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، شركة خدماتية كانت منذ 6 اشهر توصف باحدى افضل شركات الكويت التشغيلية، وكان مسؤولوها يفاخرون بان لديهم مليار دولار كاش. ارتفع سهمها %100 خلال عام 2009. وبعدها «طاح الفأس بالرأس» عندما اكتشف انها زورت فواتير عميل كبير. وهنا تطرح جملة اسئلة مشروعة:
ما ذنب صغار المساهمين الذين آمنوا بمسيرة هذه الشركة؟ ما وضع هؤلاء بعد ان سمعوا كلام الخبراء «واتعظوا» بكلام الصحف واستثمروا جنى عمرهم في شركة خدماتية تشغيلية؟ من المسؤول عن التزوير ومن يتحمل مسؤولية انهيار سعر السهم؟ من يحاسب ومن يعاقب وكيف؟ اسئلة تبقى من دون اجوبة في غياب الحوكمة.
4 - أموال العملاء
يحسب للبنوك في الكويت تفرقتها المتطرفة بين اعمالها واموال العملاء، لكن هذه التفرقة «اغتصبت» في الكثير من شركات الاستثمار وادارة اموال الغير. فمثلا، كانت شركة استثمار متعثرة تستغل اموال العملاء في مرابحات لمصلحتها. أي انها باختصار كانت تقترض هذه الأموال من دون علم العملاء انفسهم.
وهذا ما يسمى في جميع العلوم «خيانة امانة» تستحق المعاقبة. لكن في قطاع الاستثمار، يبدو ان الشواذ الشائع بات قاعدة سليمة. فحبذا الحوكمة اذا!
الحوكمة التي هي رابع المستحيلات بعد الغول والعنقاء والخل الوفي، لا حيوان اسمه غول ولا طائر اسمه العنقاء. أما الخل الوفي فحدث ولا حرج عن استحالة وجوده لاسيما في الازمات.
المركزي والحوكمة
يعمل «المركزي» بالتعاون مع البنك الدولي على اجراء تقييم عام للحوكمة في البنوك ويسعى لوضع اسس ومعايير محددة تتبعها المصارف في هذا الجانب.
ومن بين هذه الأسس فصل الملكية عن الادارة وتعزيز الشفافية في البيانات المالية مثل الكشف عن رواتب ومكافآت كبار التنفيذيين. حبذا لو تعمم المعايير على القطاعات كافة.