براءة الذمة في الشركات المساهمة: حماية قانونية لكنها ليست حصانة مطلقة

03/12/2025 0
د. عبد الرؤوف المبارك

في كل عام، ومع اقتراب موعد الجمعيات العامة العادية، يظهر بند مألوف على جدول الأعمال: "منح أعضاء مجلس الإدارة براءة الذمة عن السنة المالية المنقضية". قد يبدو هذا الإجراء روتينيًا، لكنه في الواقع يحمل بُعدًا قانونيًا وحوكميًا عميقًا يمس العلاقة الجوهرية بين المساهمين والإدارة. فقرار منح أو حجب براءة الذمة لا يُعد مجرد خطوة إجرائية، بل هو تصويت ضمني على الثقة، وتقييم غير مباشر للأداء، ومؤشر مباشر على مدى التزام الشركة بمعايير الشفافية والمساءلة.

براءة الذمة Discharge from liability)) تعني أن الجمعية العامة للمساهمين تُخلي طرف أعضاء مجلس الإدارة من أي مسؤولية قانونية أو مالية عن القرارات التي اتُخذت خلال سنة مالية معينة، وذلك بناءً على ما عُرض من تقارير مالية، ومراجعات محاسبية، وبيانات أداء. لكنها ليست صكّ غفران مفتوح، بل حماية قانونية مشروطة بما تم الإفصاح عنه فقط. فإذا ظهرت لاحقًا معلومات جوهرية لم يُكشف عنها، أو خروقات للأنظمة، فإن براءة الذمة لا تحمي من المساءلة أو من الملاحقة القانونية في حال وجود أدلة على الإضرار بالشركة أو مخالفة الأنظمة، كما لا تمنع التحقيقات الرسمية متى ما ظهرت مبرراتها. لكنها، في ذات الوقت، تُشكل مظلة قانونية تُعبر عن رضا الجمعية العامة، وتُسهم في تعزيز مناخ الثقة بين المساهمين والمجلس.

في السوق السعودي، يُنظم هذا الإجراء نظام الشركات، إضافة إلى لوائح هيئة السوق المالية، حيث يُمنح المساهمون الحق في التصويت على براءة الذمة خلال الجمعية العامة العادية. ويُشترط أن تُمنح بعد الاطلاع على نتائج الأداء، وتقرير مجلس الإدارة، وملاحظات المراجعين، وذلك لضمان أن يكون التصويت مستندًا إلى معرفة حقيقة لأداء الشركة ومجلس الادارة. لكن حتى هذا التصويت لا يمنع هيئة السوق المالية أو الجهات القضائية من فتح التحقيقات، إن وُجد ما يستدعي ذلك.

في كثير من الأحيان، يتم منح براءة الذمة بالإجماع أو بأغلبية مريحة، خصوصًا في الشركات التي تملك فيها المؤسسات أو العوائل حصة مسيطرة. لكن في حالات معينة، يُرفض هذا التصويت أو يُحجب عن بعض الأعضاء، وهو ما يفتح باب التساؤل عن دلالات هذا الرفض. فعدم منح براءة الذمة ليس مجرد تصويت رمزي، بل يحمل أثرًا قانونيًا ومعنويًا بالغًا. إنه إشارة رسمية على وجود تحفظات من المساهمين على أداء المجلس أو أحد أعضائه، وربما يتضمن مؤشرات أولية على شبهات إدارية أو ضعف في الكفاءة.

وعمليًا، فإن رفض منح براءة الذمة يُسجَّل في محاضر الجمعية، وقد يؤثر بشكل مباشر على السمعة المهنية لعضو مجلس الإدارة، خاصة في سوق الشركات المساهمة حيث ان مجالس الإدارة بالشركات، والمستثمرون، ينظرون إلى سجل العضو في الجمعيات السابقة، وحجب البراءة قد يكون عنصرًا مؤثرًا عند النظر في ترشيحه لمجالس إدارات أخرى. فرغم أن الحجب لا يُعد حكمًا بالإدانة، إلا أنه كافٍ لإثارة الشكوك وتقييد فرص التعيين في المستقبل.

ومن اللافت أن بعض النظم القانونية الأجنبية مثل بعض الولايات الأمريكية تسمح للشركات، عبر ميثاقها التأسيسي، بأن تُقيد أو تُلغي المسؤولية الشخصية لأعضاء مجلس الإدارة عن الأضرار المالية الناتجة عن قراراتهم، بشرط أن لا تكون تلك القرارات قد صدرت بسوء نية أو في خرق لأنظمة الشركة. هذا المفهوم القانوني، المعروف باسم (Exculpation)، يُعد أداة تشجيعية تستهدف استقطاب الكفاءات الإدارية، وتمكينهم من اتخاذ قرارات استراتيجية دون خشية من الملاحقة. ورغم أن النظام السعودي لا يتبنى مثل هذا النموذج تعاقديًا، إلا أن براءة الذمة تؤدي وظيفة شبيهة من حيث توفير الحماية المشروطة ضمن نطاق الحوكمة وموافقة المساهمين.

ومما يجدر التنبيه إليه أن بعض المساهمين يربطون تصويتهم على براءة الذمة بنتائج الأرباح أو حجم التوزيعات النقدية التي تلقوها خلال السنة، ويعتبرونها المعيار الوحيد لتقييم أداء المجلس. هذا الفهم الشائع، رغم انتشاره،

لا يعكس وظيفة براءة الذمة بشكل دقيق. فالنتائج المالية، رغم أهميتها، قد تتحقق أحيانًا على حساب الاستدامة أو بتجاهل المخاطر أو على خلفية قرارات قصيرة المدى. كما أن الأرباح لا تعني بالضرورة كفاءة الإدارة، تمامًا كما أن الخسائر لا تعني الفشل دائمًا. براءة الذمة يجب أن تُبنى على أسس أعمق: التزام المجلس بأنظمة الشركة، نزاهة قراراته، الإفصاح عن المخاطر، وحماية حقوق المساهمين على المدى الطويل. التصويت بناءً على التوزيعات فقط يُفرغ البراءة من معناها، ويحولها إلى مكافأة ظرفية لا علاقة لها بالمحاسبة أو بالحوكمة الرشيدة.

وفي الختام، تبقى براءة الذمة أداة قانونية ذات بعد إنساني وأخلاقي، لا تقتصر فقط على حماية أعضاء مجلس الإدارة من المسؤولية، بل تُعد أيضًا تقديرًا عادلًا للجهود التي بذلوها في قيادة الشركة خلال عام مليء بالتحديات. فمجالس الإدارة، في الغالب، تتحمل ضغوطًا هائلة ومسؤوليات استراتيجية ومالية وتنظيمية جسيمة، ومنحهم براءة الذمة هو من أبسط صور العرفان إذا أدوا أماناتهم كما يجب، وأداروا مصالح المساهمين بنزاهة وكفاءة.

من هذا المنطلق، فإن التصويت على براءة الذمة لا ينبغي أن يكون مبنيًا فقط على نتائج الأرباح أو مقدار التوزيعات، بل هو قرار يتطلب رصانة في التقدير، وتفهمًا لطبيعة العمل الإداري وما يعتريه من اجتهادات قد تصيب وقد تخطئ. ففي بيئة الأعمال، قد تقع أخطاء غير مقصودة أو قرارات يُثبت الزمن عدم جدواها، لكنها لم تصدر بسوء نية أو إهمال متعمد. وهنا يبرز البعد الأخلاقي والشرعي لبراءة الذمة؛ فالشريعة الإسلامية تقرّ في بعض الحالات بأن الخطأ غير المتعمد لا يُؤاخذ عليه العبد، وأن العفو عند المقدرة من مكارم الأخلاق، لا سيما حين يكون في حق من اجتهد وأخلص النية ولم يستغل المنصب في اعمال مشبوهة.

لذا، فإن براءة الذمة حين تُمنح عن علم وقناعة، فهي لا تحمي فقط، بل تُنصف وتُكرم وتُرسّخ الثقة بين الملاك والإدارة. وحين تُحجب عن بصيرة وسبب وجيه، فهي وسيلة لتعبير عن عدم الرضى والحاجة الى تصحيح او تغير في أعضاء مجلس الادارة. وبين المنح والحجب، تبقى الشفافية، والعدالة، وحسن الظن، والرقابة الرشيدة هي القيم التي يجب أن تحكم هذا القرار في السوق السعودي، وكل سوق يطمح للنمو بثبات ووعي ومسؤولية.

 

خاص_الفابيتا