البعض يدعو إلى تغيير العلاقة في توظيف الأفراد، ويتبنى نموذج "مرونة أكثر وحماية أقل" في تعيينهم، لاعتقاده بأن إقامة الفعاليات والحراك، والأنشطة المختلفة هي التي سوف تحدد مستوى وتركيب البطالة والتوظيف، واللذين يرتبطان معا عند إقامة هذه الفعاليات والأنشطة في مختلف أشكالها: رياضية كانت أو ترفيهية أو ثقافية أو مهما كان نوعها. ويستدعي للدلالة على ذلك نموذج "النمو الأخضر" في الاقتصاد، الذي هو إحدى الطرق التي تسمح من خلال الفعاليات والأنشطة، بالمحافظة على البيئة، وفي نفس الوقت يعمل على خلق وظائف جديدة لم تكن موجودة سابقا، مما يؤدي إلى إعادة التمركز للأولويات، والصناعات والخدمات، ويسمح -وهذا هو المهم- بتجنب تغيير الأماكن (الانتقال) للأفراد من مكان لآخر.
إن نموذج "مرونة أكثر وتخصص أدق" بإمكانه أن يعمق أصالة الفعاليات في المنطقة، ويبرز مكانتها محليًا، وريادتها عالمياً، وأن يثريها بالخدمات عن طريق: التوظيف المحلي للأفراد القريبين مكانياً (The Locals) من مقر إقامة الفعاليات التي تقع في منطقتهم، ونفس مسقط رأسهم، فتستقطب هذه الفعاليات الفرد المحلي في التوظيف، والتعيين المرن لديها، وبالتالي صناعة عوامل نمو محلية للغد، وما بعد الغد.
هذا المكمن في نموذج "مرونة أكثر وتخصص أدق" يحترم المصادر المكانية التي تقام فيه الفعاليات بمرونةٍ أكثر في التوظيف، وتلبية احتياج أكثر للمؤسسات في توظيف الأفراد المحليين بطرق أكثر مرونة وفعالية أكبر. إن التدرج في تطبيق هذا النموذج سيتمخض عنه ولادة تغير في طبيعة المحافظة على البيئة التي تقام بها الفعاليات، فلا يبذر الأفراد الموارد المحلية، ولا يستهلكوا القيمة لها، وتكوين رافعة للنمو، وليس أي نمو بل النمو النوعي، المرتبط بالتوظيف المحلي من جهة، والمحافظة على مكتسبات البيئة من جهة أخرى، كما أن العقود الجديدة للتوظيف المرن في هذا النموذج تستدعي إنهاء التفاوض بين المؤسسات، وبين طالبي التوظيف، ويستوجب ذلك التأقلم بين حماية الموظفين المحليين، والآمان الوظيفي لهم.
أما في موضوع التخصص الذي هو الشق الثاني من عنوان المقال، فإنه يتوجب على كل فرد طالب للعمل المحلي بذل كل ما في وسعه، وبكل طاقته إلى اكتساب المزيد من المهارات والجدارات واللغات، والعمل على ترسيخها، وزيادتها بما يتوافق مع ميوله وطموحه، وما يتوافر عنده من فعاليات في منطقته المحلية.
ربما في بداية تكوين مهارات الفرد يكون الدافع الرئيس عنده هي النظرة الذاتية التي تتولّد من النزعة الاحتكارية، والسيطرة، وتحقيق النجاح السريع، ولكنها كأي دافع تتبلور، وتتغيّر من خلال الممارسات، وتقترب من النظرة الإنسانية، التي تتشكّل من النزعة المحلية للأفراد المجتمعين على تحقيق هدف واحد، فمن خلال الجماعة، وفريق العمل المحلي يجد الفرد نفسه قادراً على تحقيق شغفه وطموحه، لأنه ببساطه يجد من يعينه، ويجد من يدعمه ويحفزه، ويعمل معه من أفراد مجتمعه.
فالعمل من أبناء المجتمع المحلي، يعطي دافعاً ذاتياً، وتحفيزاً عميقاً في التشارك الجماعي القوي، وفي تحقيق النتائج الفورية، لذا فإن النموذج المناسب لترسيخ التخصص هو بالعمل المحلي، الذي يبدأ بالمبادرة والتطوع، ثم النظرة الشخصية للفرد والعائد والمردود المادي له، فما دام الفرد ليس لديه تجارب ولا يوجد عنده الخبرات السابقة يكون العمل التطوعي مفتاحه الرئيسي الذي ينطلق منه للنجاح والتخصص، ويستند عليه في اكتساب مهارات مهنية تميزه عن غيره، وتضمن له عملاً نوعياً، وفرصاً أكبر للتوظيف.
وإذا أضفنا إقامة الفعاليات مع العمل الجماعي المحلي والتطوعي، فإن ذلك ما يحتاج إليه نمو الاقتصاد، ليحقق للمؤسسات المرونة الأكثر في التوظيف، ويحقق للفرد التخصص الأدق في العمل، واختيار العمل المناسب له، والمشاركة في الفعاليات المحلية، التي يستطيع أن يبذل فيها كل ما لديه من قوة وذكاء ومهارة، ضمن فريق عمل محلي منسجم معه، ويستمتع هذا الفرد بما يقوم به من أعمال ونشاطات خضراء، وبما يولّد لديه من شعور بالتفاؤل والاستمرار في العمل، والانتقال السلس إلى ما بعد التطوع، أي انتقاله إلى التجارة والصناعة، ثم الريادة ثم العالمية، يتكامل معه دور الجهات التنفيذية المحفزة له، والتي يُفترض أن تمتلك صلات وعلاقات وعلى معرفة واطلاع بالاحتياجات المحلية، ولديها مقاييس تقيس بها قدرة المجتمع المحلي على تنمية نفسه بنفسه، وصناعة نفسه بنفسه، ومدى نجاحه في المشاركة بالفعاليات المقترحة في بيئته، وتقرر هذه الجهات منافذ الفعاليات وأشكالها وأنواعها، وأن تشتمل جميع المناطق المختلفة لبث رسالتها التنموية الشاملة في كل المناطق، وتدعم الطاقات المحلية، وتستفيد منها، وتعظّم المنفعة، وتستثمر في المكنونات الاقتصادية للأماكن، والتفاعلات المحلية، والإيجابية فيها.
ختاماً.. التوظيف المحلي ليس دائماً حلاً كافياً لبلوغ النمو التام للاقتصاد، ولكن يبقى في نفس الوقت ضرورياً اجتماعياً واقتصادياً لتحقيق نمو بسيط على أقل تقدير، مما يؤدي إلى نمو طويل تقل فيه نسب البطالة، وتزداد فيه المؤسسات مرونة. كما أن الوصول إلى الأمان الوظيفي المرن يُعد أحد مجالات الابتكار المفتوح في هذا النموذج لكي يكون معمماً، ومطبقاً في عالم اقتصادي أفضل. وعليه نوصي في هذا المقال بما يلي:
1)الإستفادة عند إقامة الفعاليات والاحتفالات والأنشطة الوطنية وعند إستضافة الأحداث العالمية البارزة، من مقومات الطبيعة المحلية نفسها بما في ذلك الأيدي العاملة التي تقطن مناطقها وتعيش أجوائها، وأن نستفيد من جغرافية المنطقة وهذا ما أورده "دايفد هيوم" الذي يُعتبر واحد من جغرافيي العمل، وأضاف أن ما يخلق أهمية للفعالية ليس نفسها بل مقدار التفاعل والإهتمام من السكان المحليين فيها.
2)الدعوة الى التفكير الإستراتيجي في تهيئة الأيدي العاملة منذ المراحل المبكرة في تنظيم الفعاليات والأنشطة، ووضع تصور تنمية للمجتمع المحلي وللمنطقة الجغرافية والنظر على أنها تستدعي التحريك من حالة السكون الى حالة النشاط والتنمية، ووضع تصور إستراتيجي للحقائق المجتمعية المشارِكة في الفعاليات والأنشطة. هذا التصور الإستراتيجي كفيل بنقل الفعالية من المحلية الى العالمية.
3)النضج المصاحب للتنمية المجتمعية التي تُبنى من الشراكة المحلية في الفعاليات والأنشطة والتي سوف تبهرنا في التنفيذ والأداء، حيث ان التنوع الإنساني والإنسجام المكاني سوف يرسم لنا أجمل صورة تعبيرية بين المجتمع والفعاليات التي ساعد هذا المجتمع المحلي في تنفيذها لأنها ببساطة تعبر عنه وله فيها ذكريات لا تُنسى وصورة مطبوعة في ذهنه يحب ان يراها الناس كافة في أبهى صورة وأجمل أداء.
4)التمكين من عقد المقارنات على أساس نوعية وخبرة الأيدي العاملة المحلية المرتبطة بمكان الفعالية وبين الأيدي العاملة التي لا تكون مرتبطة مكانياً بالفعالية ودراسة تأثير كل حالة منها على الفعالية نفسها أولاً وعلى المجتمع ثانياً وعلى نجاح الشراكة بين الفعالية وبين الأيدي العاملة المحلية، ربما في دراسات اقتصادية مستقبلية سوف نتعرف على مثل هذه المقارنات والمقاربات.
المقالة منشورة في "نشرة الاقتصاد" الصادرة عن جمعية الاقتصاد السعودية، عدد ربيع الأول 1447 هـ - سبتمبر 2025.


