لا تقتصر أزمة الكهرباء في سوريا على الانقطاع المتكرر للتيار، بل أصبحت معضلة إنسانية واقتصادية وتنموية، لأن الطاقة هي شريان الحياة لأي اقتصاد ومجتمع، وبدون طاقة موثوقة، يتعذر:
•استقرار الحياة اليومية: يعاني الإنسان – خاصة في التجمعات السكنية الكبيرة – من شدة الحر صيفاً ووطأة البرد شتاءً، ويضعُف التعليم، وتتأثر منظومة الرعاية الصحية سلباً.
•إعادة الإعمار: يصعب تشغيل المصانع أو المعدات الثقيلة، فضلاً عن الاستثمار في أنشطة اقتصادية جديدة.
•العودة الطوعية للنازحين: لن يعود الناس إلى مدنهم وقراهم إذا كانت تفتقر إلى الكهرباء، أهم ممكّن لمقومات الحياة.
الحلول التي طُرِحت لحل أزمة الكهرباء في سوريا راوحت بين محطات توليد عائمة تتطلب شبكة نقل وتوزيع فاعلة، أو صيانة محطات توليد قديمة قليلة الكفاءة وإعادة تأهيل شبكتي النقل والتوزيع المتآكلتين بسبب التقادم وضعف البنية التحتية والحرب، ثم الاستثمار في محطات توليد مركزية جديدة وإعادة بناء شبكتي النقل والتوزيع اللاتي يبلغ أطوالهما آلاف الكيلومترات. كما طُرِحت فكرة بناء محطات ضخمة للطاقة الشمسية تتصل بشبكة النقل والتوزيع المركزية، مما يتطلب إعادة تأهيل الشبكتين.
إن الحلولَ المقترحة مناسبةٌ لمنظومة تقليدية تكون عناصر النقل والتوزيع فيها قائمة وفاعلة إلى حد كبير، وتعتمد جُلّها على محطات توليد بخارية أو غازية تقليدية، سوى ما اقتُرحَ من محطات طاقة شمسية ضخمة. ونحسب أن النموذج التقليدي (المركزي) سواء كان التوليد فيها بالوقود السائل أو الغازي، أو بالطاقة الشمسية، محدود للغاية، ولا يلبي الحاجة الملحة القائمة في سوريا حالياً، ولا في المستقبل القريب، وسيشكل عبئاً كبيراً – نراه غير مبرّرٍ – على الاقتصاد السوري.
تتضح محدودية النموذج التقليدي (المركزي) بالنظر إلى محطات التوليد المركزية في حلب وجندر، على سبيل المثال، التي تولد الكهرباء ثم ترسلها عبر شبكات نقل وتوزيع طويلة لتصل إلى المستهلك. هذه المنظومة أصبحت عبئاً لأن:
•محطات التوليد الحالية قديمة وسيُكلّف إعادة تأهيلها مبالغ طائلة، لانخفاض كفاءتها.
•إحلال محطات توليد جديدة محل القديمة المتهالكة مكلفٌ أيضاً، ولن يكون متاحاً إلا بعد سنتين إلى ثلاث سنوات على الأقل.
•شبكتا النقل والتوزيع القائمتين متهالكتين، بسبب القِدم وضعف الصيانة، وبسبب الدمار والتخريب. هاتان الشبكتان قديمتان أصلاً وينتج عن استخدامهما هدر للطاقة كبير، فقد تصل خسائر النقل والتوزيع فيهما إلى 30%. ويتطلب تطوير الشبكتين وتجديدهما استثمارات ضخمة، بالتوازي مع الاستثمار في محطات التوليد.
•مركزية التوليد: النموذج التقليدي المركزي يجعل أي عطل في محطة رئيسة أو خط نقل يؤثر على مناطق شاسعة.
•الوقود: يتطلب النموذج التقليدي المبني على التوليد المركزي، سواء من الوقود السائل أو الغازي – باستثناء الطاقة الشمسية، استيراد كميات كبيرة من الوقود لسنوات قادمة حتى تتمكن سوريا من إعادة تأهيل حقول النفط والغاز.
ما الحل إذن؟ قد ترى الجهات المسؤولة عن تخطيط الطاقة في سوريا مناسبة اعتماد "القفز على المراحل" والبدء من حيث انتهى الآخرون، بدلاً من العودة إلى حيث انطلقوا قبل عقود من الزمن باستخدام حلول كانت مناسبة وقتئذ، ولم تعد هي الأنسب أو الأكثر استدامة في وقتنا هذا.
يتطور قطاع الطاقة عادة بشكل تدريجي. لكن الدمار الذي لحق بالمنظومة الحالية يمنح سوريا فرصة نادرة لتخطي مرحلة التطور التدريجي هذه والانتقال مباشرة إلى نموذج لامركزي حديث، تماماً كما قفزت العديد من الدول النامية مباشرة إلى شبكات الهاتف المحمول دون الاستثمار بشكل مكثف في خطوط الهاتف الثابت. ولتخطي مرحلة التطور التدريجي لقطاع الطاقة، ينبغي على الـمُخطّط أن ينظر للقطاعات الاقتصادية نظرة تكاملية، لا نظرة تقليدية تخطط لكل قطاع بشكل مستقل.
قطاع الطاقة الحالي في سوريا يعاني من تحديات كبيرة كما ذكرنا، ولكنه ليس مدمراً بالكامل. ويتطلب إعادة تأهيله أو إحلال مكونات جديدة محل القديم منها، ثم إضافة ما يحتاجه من تلبية الطلب المتزايد استثمارات ضخمة ومُدَدٍ طويلة. ولكن قطاع الطاقة، من منظور الاستهلاك وليس التوليد، متباين تماماً في نوعية الطلب وكثافته، أو تركّزه وتوزّعه، فلماذا لا ننظر في توجيه منظومة الطاقة الحالية تدريجياً – بكل تحدياتها – للقطاعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، مثل الصناعة، ونعمل على تكامل منظومة الكهرباء السكنية مع قطاعات أخرى متسقة معها من حيث نمط الاستهلاك، مثل قطاع النقل. الفكرة الجوهرية هي عدم إيجاد حلول لقطاع الطاقة وقطاع الصناعة وقطاع النقل بشكل منفصل، بل التخطيط لإيجاد حل تكامليّ قابل للتطبيق ويلبي حاجة كل قطاع بسرع وبجدوى اقتصادية وكفاءة عالية.
خاص_الفابيتا

