ليوم الجمعة 23 أغسطس من عام 2019 ذكرى مريرة عند محبّي ومتابعي نادي "أطلع بَرَّة" من جوبا، عاصمة جنوب السودان. في ذلك اليوم المشؤوم، لعب "أطلع برّة" مع الأهلي المصري مباراة الإياب على ملعب برج العرب في الإسكندرية، ضمن منافسات دوري أبطال أفريقيا، وخسر اللقاء بتسعة أهداف مقابل لا شيء. تلك النتيجة كانت أسوأ خسارة لفريق "أطلع برّة" في تاريخه منذ بدأ مشاركاته القارِيَّة عام 2013، ولكن ما علاقة نادٍ من جنوب السودان بي، وبأخطائي وتعلّمي منها؟
مواقفُ في حياتنا نَمُرُّ بها وتَمُرُّ بنا، لا نفهمها حينها، وإن فهمناها – أو خُيِّلَ لنا – يصعب علينا استيعابها عند حدوثها، أو بعد حين.
أخذتُ تفرغا من عملي في القطاع الخاص لأعمل مستشارا مع جهة حكومية تُطَوِّرُ استراتيجية وطنية لأحد القطاعات الاقتصادية الرئيسة. عقد الفريق اجتماعات ونقاشات ومراجعات، وأجرى دراسات ميدانية ومقارنات معيارية، واستقصى آراء ومقترحات المعنيين في ورش عملٍ متخصصة، واستعان بخبراء محليين وعالميين، وبمنظمات دولية. اجتهدنا قدر استطاعتنا، ورأى قائدُ الفريق أننا وصلنا إلى مرحلة من النضج كافية لعرض المسودة على المسؤول الأول.
استضافنا المسؤول الأول في بيته العامر لعرض المسودة والنتائج والتوصيات المبدئية التي وصلنا لها. تولّى قائد فريق الاستراتيجية تقديم العرض، وقمتُ بتدوين المداولات التي كانت بين مُقَدِّمِ العرضِ وثلاثة من ضيوف صاحب البيت. احتد النقاش وعلت الأصوات، وراوحَ النقدُ بين المحتوى والمنهجية، ولم تسلمْ منه طريقة العرض ولا المتحدث. حاول قائد الفريق إجابة الأسئلةِ قدر استطاعته، ولكن إصرار أحد الضيوف على مقاطعته، بل الانتقاص من آرائه وحججه، أقنعت المسؤول الأول بأننا لن نصل لنتيجة في ذلك اللقاء.
قنِعَ الحضور، بعد ساعات من الأخذ والرد، من الغنيمة بالإياب، واتفقوا على أن أزور ذلك الضيف في منزله في غدٍ أو بعد غدٍ لأعرض عليه مسودة الاستراتيجية، وأسجلَ مرئياته وملحوظاته، للاستفادة منها في مراجعة وتطوير المحتوى. وتفرّقَ الجمعُ على ذلك.
طرقتُ بابَ من أُرسلِتُ لأخذ مرئياته من الغد، بعد صلاة العصر، فرحب بي وقادني لمكتبه في حديقة منزله. وبعد أن طلب الشاي والقهوة، عرَّفَني نفسه، وأخبرني عن تفوقه الدراسي وخبراتِه، وعن المسؤولين الذين يطرقون بابه كل يوم سائلين رأيه ومستعينين بمشورته. استمعتُ بأدبٍ ولم أنبِس ببنتِ شفة، ثم استأذنته في البدء بعرض مسودة الاستراتيجية فأذِن، وجهّزتُ قلمي وأوراقي لتدوين مقترحاتِه ومرئياتِه.
كان المُضيفُ متحمسا، يشير بيديه مظهرا تعجُّبَه حينا وامتعاضه حينا. وعندما وصلتُ للشريحة الخامسة، من أصل مائة أو تزيد، بعد مرور ساعة على بدء العرض أو أقل قليلا، أوقفني معيدا ذكرَ تفوُّقِهِ الدراسي. لم أفهم علاقة إنجازه الأكاديمي بما كنا نتحدث عنه، فقلت له: "لا أرى علاقة بين تفوقك الدراسي وبين ما نتحدث عنه في هذه الشريحة"،
فصرخ بي غاضبا: "اطلع برة"، وطردني من بيته. جمعتُ أوراقي وأقفلتُ جهازي، ووضعتُها جميعا في الحقيبة، وخرجتُ صامتا من المكتب، ثم من باب الفيلا، متجها نحو سيارتي.
سمعتُ وقع أقدامٍ خلفي، فالتفتُّ فإذا به مهرولا، وسألني العودة لمكتبه، فعُدّتُ معه. سألتُهُ إن كان راغبا في مواصلة العرض، فاعتذر، وساد الصمتُ بيننا فاستأذنت بعد دقائق خمسٍ فأذن لي.
لم أفهم ما حدث، وحلّلتُهُ وناقشتُهُ بيني وبين نفسي، وقرّرتُ تغليب حسن الظن. وعندما عدتُ للمكتب صباح السبت، أخبرتُ قائد الفريق بما حصل، وذكرتُ له اعتقادي أن طردي من المنزل كان القصد منه إخضاعي لموقف مزعج بهدف اختبار قدرتي على التعامل مع مثل هذه المواقف، لأنه عندما يتطور العمل على الاستراتيجية سنمر بمراحل أصعب وتحديات أشد. فاستمع ولم يُعَلِّقْ.
ولكنني علمتُ لاحقا أن طردي من المنزل لم يكن الهدف منه إخضاعي لتجربة أو لاختبار قدرتي على التعامل مع معطيات ومواقف صعبة.
=============
الدروس المستفادة:
· عندما يتحدث أحدُهُم عن نفسه، فاستمع غير ممارٍ.
· حاول إعادة توجيه الحديث لتحقيق الهدف المنشود من اللقاء، فإن لم يرعَوِ، فصبرٌ جميل.
· وإن واجهك ما واجهني فاصفح الصفح الجميل.
· وإن لم يؤتِ الصبرُ والصفحُ ثمارَهما، فاهجر الهجر الجميل.
خاص_الفابيتا
معقولة فيه ناس كذا النرجسية عالية عند الاناس عموماً والعربي خصوصاً لكن ما توقعت بان تصل لهذه الدرجة.
شكرا لتعليقك أيها الكريم. من الصعب فهم دوافع التصرفات أحيانا، وأحيانا يصعب تقبلها حتى وإن فهمناها
اكثر ما لفت انتباهي في مقالك هو طولة بالك و القدرة على امتصاص انفعالات الشخص المقابل .... شكرا لك على مشاركة هذه التجربة البسيطة في شكلها و لكن اعتقد انها صعبة التطبيق عند الكثير منا
شكرا للطفك أيها الكريم، ولحسن ظنك بأخيك
جميل جداً مشاركتك خبراتك ومن ما تغبط عليه طولة بالك وحلمك المعروف في العديد من المواقف. واسعد دائمًا بقرات مقالاتك المفيدة. وفقك الله ورعاك
شكرا لكريم لطفك د. حسن، ولجميل حسن ظنك بأخيك. سلمكم الله وبارك فيكم