"مِن عَجِيبِ الفِراسَةِ ما ذُكِرَ عَنْ أحْمَدَ بْنِ طُولُونَ: أنَّهُ بَيْنَما هو في مَجْلِسٍ لَهُ يَتَنَزَّهُ فِيهِ، إذْ رَأى سائِلًا في ثَوْبٍ خَلِقٍ، فَوَضَعَ دَجاجَةً في رَغِيفٍ وحَلْوى وأمَرَ بَعْضَ الغِلْمانِ بِدَفْعِهِ إلَيْهِ، فَلَمّا وقَعَ في يَدِهِ لَمْ يَهَشَّ، ولَمْ يَعْبَأْ بِهِ، فَقالَ لِلْغُلامِ: جِئْنِي بِهِ، فَلَمّا وقَفَ قُدّامَهُ اسْتَنْطَقَهُ، فَأحْسَنَ الجَوابَ، ولَمْ يَضْطَرِبْ مِن هَيْبَتِهِ، فَقالَ: هاتِ الكُتُبَ الَّتِي مَعَك، واصْدُقْنِي مَن بَعَثَك، فَقَدْ صَحَّ عِنْدِي أنَّك صاحِبُ خَبَرٍ. وأحْضَرَ السِّياطَ، فاعْتَرَفَ، فَقالَ بَعْضُ جُلَسائِهِ: هَذا واللَّهِ السِّحْرُ، قالَ: ما هو بِسِحْرٍ، ولَكِنْ فِراسَةٌ صادِقَةٌ، رَأيْت سُوءَ حالِهِ، فَوَجَّهْت إلَيْهِ بِطَعامٍ يَشْرَهُ إلى أكْلِهِ الشَّبْعانُ، فَما هَشَّ لَهُ، ولا مَدَّ يَدَهُ إلَيْهِ، فَأحْضَرْته فَتَلَقّانِي بِقُوَّةِ جَأْشٍ، فَلَمّا رَأيْت رَثاثَةَ حالِهِ، وقُوَّةَ جَأْشِهِ، عَلِمْت أنَّهُ صاحِبُ خَبَرٍ، فَكانَ كَذَلِكَ"، عَرّفَ أبو إسماعيل عبد الله الهروي الفِراسة قائلا: "هو استئناس حكم غيبٍ من غير اسْتِدْلَال بشَاهِد، ولا اختبار بتجربة". وينقل عن جلال الدين الرومي قوله: "هناك صوت لا يستخدم الكلمات، فاستمع له"، ومن المُحْدَثين، يرى مالكولم جلادويل في كتابه "Blink" أن جودة القرارات العفوية هي مثل جودة تلك المخططة بعناية والمدروسة، بل تكون أفضل منها أحيانا. ويستشهد جلادويل بأمثلة من أناسٍ يفهمون مشاعرَ غرباءَ عنهم بمجرد النظر إلى وجوههم، وهذا ما اصطلح على تسميته بالفراسة أو الحدس، أو الحاسة السادسة في أدبيات اللغة العربية المعاصرة.
وكذلك نُقِل عن ألبرت أينشتاين قوله إن " الحدس هبة مقدسة، والعقل خادم أمين. ولقد أنشأنا مجتمعًا يُكْرِمُ الخادمَ وينسى الهدية"، وستيف جوبز كان من مؤيدي الاعتماد على الحدس، إذ قال: "الحدس شيء قوي جدا، أقوى من العقل في رأيي". ولعل أحد أفضل من عبّرَ عن هذا الموضوع إيزابِل إلِّندي عندما قالت: "ليس مِن الحِكمة الوُثوق بالعقلِ وبحواسِنَا المَحدُودة فقط لفهم الحياةْ. هُناكَ أدواتٌ أخرى للإدراك، كالغرِيزة والخيَال والأحلام والعواطِف والحَدس".
من أنا لأختلف مع هؤلاء الجهابذة؟
استخدمت الحدَس، أو سمِّها الفِراسة، في حياتي المهنية كثيرا لتكوين انطباع عن مرشحين للتوظيف، أو عن الزملاء، أو عن الموظفين الذين يعملون تحت إدارتي، بل وحتى عن رؤسائي في العمل، في الفترة التي تلي التحاقي بعمل جديد. وبنيت أحكاما على ذلك الحدَسِ أحيانا كثيرة، وعندما عُيِّنْتُ وكيلَ الوزارة للتنمية القطاعية في وزارة الاقتصاد والتخطيط، عقدتُ أولَ اجتماع لمنسوبي الوكالة في القاعة الرئيسة بمقر الوزارة. وبعدما قدمت نفسي والوكيلَيْنِ المساعدَيْن، وشارَكْنا الحضورَ رؤيَتَنا للوكالة، فتحت المجال للمناقشة والأسئلة والأجوبة. أول تعليقٍ اقتصر على الترحيب بنا وعلى الاستعداد للعمل يدا واحدة، وكذلك الثاني. ولكن الثالث كان مختلفًا: "أنا متأزِّمٌ نفسيًا"، هذا ما ابتدأ به أحد الزملاء حديثه، وكان جالسا في الصف الأول، ثم أكمل قائلا: "أنا متأزِّمٌ نفسيًا. كلٌ مرة أذهب فيها إلى اجتماع رسمي ممثلاً للوزارة، أضطر لاستخدام سيارتي الخاصة. لماذا لا تُوَفَّر لنا سيارةٌ وسائقٌ من الوزارة؟ لماذا يجب عليَّ استخدامُ سيارتي الخاصة؟"
استمعت بصمت لشكوى الزميل الجديد، وأخبرني حدَسي أن هذا الشخص يُحسِنُ الشكوى ولا يحسِنُ العمل، ويغلُبُ على الظن أنه لا يصلح لشيء، ووضعتُ اسمه (ذِهنِيّا) في رأس القائمة السوداء التي أنشأتُها للتو، كأوَّلَ اسمٍ فيها. لم تُظهِرْ قسمات وجهي ما كنتُ أفكرُ فيه، وأجبته قائلا: "هذا حقُّك. عندما يُطلب من أحد الزملاءِ تمثيلُ الوزارة في اجتماعات خارجها، فينبغي على الوزارة توفيرُ سيارة وسائق. ولكن اسمح لي أن أخبرك أنني ذاهب بعد انتهاء لقائنا هذا إلى اجتماع في هيئة الخبراء مستخدما سيارتي الخاصة. وأعدكَ بأن السيارة والسائق اللذين سيخصصان لي سيكونان تحت تصرفك أنت وزملائك للعمل الرسمي." وانتهى اللقاء وكانت هذه هي الشكوى الوحيدة التي ذُكِرَتْ من زملائي الجدد في الوكالة.
تنفست الصُعَداء. إن كانت هذه هي أكبر شكوى في الوكالة، فيظهر لي أن الأمور تسير على ما يرام في عملي الجديد، مما يعني أنني سأقضي جُلَّ وقتي في البناء وليس في حل المشكلات. ولكن، ومن ناحية أخرى، إذا كان موقف الزميل يمثل نموذجا لموقف باقي الموظفين من أمور العمل، فقد تكون الطريق أكثر وعورة مما يظهر، من حيث المبدأ، أقررتُ بصحة الشكوى، ولكنني اعتقدت أن من يشتكي من مثل هذه الصغائر في العمل سيكون جُلُّ همِّهِ الشكوى وليس العملَ الجاد والأداء، فلا يرجى منه صرفا ولا عدلا.
فتخَيّلوا دهشتي عندما اقترحت وكيلة الوزارة للخدمات المشتركة أن أكلِّفَ ذلك الزميل (المتأزِّم نفسيا) مديرا مؤقّتا لمكتبي، إلى أن يجد الزملاء في الموارد البشرية من يشغُلُ هذه الوظيفة بشكل دائم. سكتُّ مستغربا، ولكنني لم أفعل شيئا. مرّ أسبوعٌ والتقيت الوكيلة في اجتماعنا الأسبوعي فسألتني إذا كان الزملاء في الموارد البشرية قد وفّروا لي مدير مكتب مناسبًا، وعندما أجبت بالنفي عاتبتني: "ألم أنصحك بفلان؟ لماذا لا تُكلِّفه؟" سألتها إذا كانت جادة، وأصابتني إجابتها الجازمة بالحيرة. "أيُعقَلُ أن يكون فلان مناسبا لإدارة مكتب وكيل للوزارة؟" سألت نفسي متعجبا، ولكنني عقدت العزم على قبول توصيتها، فكلّفتُ الزميل بإدارة مكتبي.
أتضح لي، عند التجربة، أن الوكيلة كانت محقة، وأن فلانا متميزٌ في عمله، مُحسِنٌ في أدائه، دقيقٌ في مواعيده، وموفٍ لالتزاماته. اكتشفت أن فلانا يعرفُ حقوقه ويطالب بها، ولكنه يعرف أيضا مسؤولياته ويؤديها على أكمل وجه، بغض النظر عما إذا حصل على حقوقه أم لا.
روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: "لا تظن بكلمة صدرت من أخيك شرًا وأنت تجد لها في الخير محملًا"، وللشيخ علي الطنطاوي (رحمه الله) مقولة: " أنا أعرّف الذكاء بأنه سرعة المحاكمة، والعقل بأنه صحة المحاكمة."
حذّرَ مالكولم جلادويل في كتابه "Blink" من أن الحكم المبني على الحدَس، والذي يطوِّره الإنسان من خلال الخبرة والتجربة والتدريب والمعرفة، قد لا يكون صحيحا، لأن الحدَس يتأثرُ بمشاعر الإعجاب أو الكراهية، أو القوالب النمطية التي نضع الأشخاص فيها، خاصة في حالة اللاوعي، لقد خذلني حدَسي تمامًا في حالة زميلي فلان، وكم كنتُ مخطئا في حكمي.
====================
الدروس المستفادة:
· قال تعالى: "إن بعض الظن إثم"، وقال: "فتبينوا". هذه القواعد الربانية هي الأساس في التعامل مع الناس. احترامها يجنِّبُ الوقوع في الخطأ.
· الاعتماد على الحدَس فقط – دون التثبُّتْ – غيرُ منصِفٍ للآخرين.
· لا تكن مثل ابن سهيل بن عمرو الذي "أساء سمعا فأساء إجابة".
خاص_الفابيتا
لله درك ممتع ومفيد وفقك الله
شكرا لمروركم وتعليقكم الكريم
لا يكن ظنك الا سيئا ان سوء الظن من الفطن .. مارمى الانسان في مخمصة غير حسن الظن والقول الحسن .. قاعدة ذهبية اذا تم تهذيبها باطار عمل واضح وحازم بحيث يكفل للجميع حقه في العمل والابداع دون تحجيم او ازدراء للجهود .. بارك الله جهودك
شكرا لتعليقك الضافي أيها الكريم