قبل عقدين، بدا الإنترنت أشبه بثورة تحرّر اقتصادي؛ شركات ناشئة تنمو بسرعة مذهلة، ومنصات جديدة تظهر كل شهر، وتقنيات تعد العالم بمستقبل تصنعه الأفكار لا الموارد. هذه الصورة لم تستمر إلى اليوم، فلم يعد الإنترنت ساحة مفتوحة للجميع، بل أصبح فضاءً يحكمه عدد محدود من الشركات العملاقة التي تتحكم في حركة المستخدمين وتوجيههم، والتي أعادت تعريف الاقتصاد الرقمي بوصفه «اقتصاداً للاستخراج» – إن صحّ الوصف - أكثر منه اقتصاداً للابتكار. هذا هو جوهر أطروحة الكاتب تيم وُو في كتابه «عصر الاستخراج» الصادر بداية هذا الشهر، وهو كتاب يفسر كيفية تحول التقنية من محرّك للتقدم إلى قوة احتكارية تعيد تشكيل الأسواق على طريقتها.
يرى وُو أن المنصات الكبرى لم تعد مجرّد شركات تقنية، بل أصبحت بنى تحتية اقتصادية تعتمد على منطق الاحتكار، فكلما زاد عدد المستخدمين في منصات مثل «غوغل» أو «أمازون»، أصبحت تكلفة إضافة مستخدم جديد شبه معدومة، وارتفعت قيمة المنصة بصورة تجعل دخول منافس جديد شبه مستحيل. حالة اختلال التوازن هذه والتي يعرفها الاقتصاديون بـ«تأثيرات الشبكة»، خلقت ما يسميه وُو القدرة السوقية فائقة التركّز، وهي قدرة تمنح الشركات الرقمية قوة هائلة للتحكم في شروط السوق، وفرض الأسعار، وإعادة صياغة قواعد المنافسة لصالحها. ومع الوقت، لم تعد هذه الشركات تسعى إلى تطوير منتجات جديدة بقدر ما تسعى إلى حماية مواقعها ومنع أي تهديد محتمل لها.
ويصبح المستخدم في هذا السياق جزءاً من العملية الاقتصادية بطريقة غير مرئية، فهو ليس بعميل أو زبون بقدر ما هو مصدر للبيانات، فكل حركة يقوم بها داخل المنصة تتحول إلى معلومة تُباع وتُشترى. هذا التحول من إنتاج القيمة إلى استخراجها هو ما يصفه وُو بأنه التحول الأخطر في تاريخ الاقتصاد الرقمي، فالابتكار الذي وعد به الإنترنت لم يتوقف لأنه أصبح مستحيلاً؛ بل لأنه أصبح غير مربح في ظل سيطرة هذه الشركات، فما المبرر لمخاطرة منصة عملاقة بتطوير منتج جديد، في حين يمكنها أن تزيد أرباحها عبر زيادة سيطرتها على بيانات المستخدمين؟ ولماذا تسمح بظهور منافس، في حين تمتلك القدرة التقنية والقانونية على إزاحته قبل أن يبدأ؟
وبينما تشير بعض الدراسات الاقتصادية إلى تباطؤ عالمي في الابتكار خلال العقود الأخيرة، فإن إسهام الكتاب لا يكمن في وصف هذا التباطؤ بقدر ما يكمن في تفسيره عبر منطق السوق، فالاحتكار الرقمي ليس مجرد نتيجة للثورة التقنية، بل هو نتيجة مباشرة لتراكم قوة السوق في يد عدد محدود من الفاعلين الرقميين الذين أصبحت لديهم قدرة خارقة على التحكم في سلوك المستهلكين، وفي الوصول إلى البيانات، وفي تحديد من يدخل السوق ومن يُمنع من ذلك. هذه الحالة تحوّل الاقتصاد الرقمي إلى بيئة جامدة، تخلو من المنافسة الديناميكية التي تُعد شرطاً أساسياً لنشوء الابتكار.
الأمر الأخطر في تحليل الكاتب أن هذه القوة الاحتكارية لا تؤثر فقط في المنافسة بين الشركات، بل في البنية الاجتماعية نفسها، فالمنصات أصبحت تتحكم في الانتباه البشري فيما كتب عنه سابقاً بظاهرة «اقتصاد جذب الانتباه»، وتعيد تشكيل السوق اعتماداً على الوقت المنقضي بالمتابعة، حيث يصبح كل تفاعل جزءاً من دورة استخراجية تضخّم أرباح الشركات دون تقديم أي قيمة جديدة للمجتمع. هذا النموذج - القائم على تعظيم الإدمان الرقمي - ليس مجرد مسألة تقنية، بل هو مسألة اقتصادية وسياسية وحتى اجتماعية؛ إذ يجعل الشركات الكبرى في موقع لا تُنافس فيه على تقديم الأفضل، بل على الاحتفاظ بالمستخدمين داخل حدود منصاتها أطول فترة ممكنة.
ويربط ذلك تباطؤ الابتكار مباشرة بممارسات الاحتكار الرقمي، فالعالم لا يشهد تباطؤاً في الابتكار لأن الأفكار نفدت؛ بل لأن الأفكار الجديدة لم تعد قادرة على اختراق الجدران العالية التي بنتها الشركات الكبرى. وفي ظل هذا التمركز الهائل لقوة السوق، تصبح الشركات الناشئة عاجزة عن المنافسة، ويصبح المستثمرون أكثر ميلاً إلى دعم مشاريع صغيرة تُباع لاحقاً للعمالقة بدلاً من دعم مشاريع قد تُحدث ثورة حقيقية، والمتابع للشركات الناشئة يدرك أن طموح العديد من رواد الأعمال أن تستحوذ شركة كبرى على شركاتهم الناشئة.
إن مستقبل الابتكار قد لا يكون بالقتامة التي صورها وُو، ولكن استعادة الحيوية الاقتصادية تتطلب إعادة هيكلة قواعد السوق الرقمية حتى لا تبقى البيانات محتكرة، وحتى لا تصبح المنصات بوابات مغلقة لا تسمح المنافسة بالمرور من خلالها. والأنظمة الجديدة يجب أن توازن بين حماية المستخدم وتشجيع الابتكار المنتج، بالإضافة إلى تقييد قدرة الشركات على استخدام قوتها السوقية لخنق المنافسة. ومع بزوغ شمس الذكاء الاصطناعي، فإن البيانات أصبحت كنزاً من الصعب على الشركات أن تفرط فيه، وقد تستخدم طرقاً شتى للحفاظ عليه، ولكن يجب ألا يُنسى أن هذه البيانات حق للجميع، وليس لهذه الشركات أن تبطّئ الابتكار لمجرد المحافظة عليها.
نقلا عن الشرق الأوسط


