أصدر الكاتب والاقتصادي السعودي الدكتور عبد الواحد الحميد كتاب «الاقتصاد الثقافي» الذي تناول فيه موضوعاً مهماً عادة ما ينفر الاقتصاديون عن الكتابة عنه، ويجيب الكتاب عن سؤال جدلي وهو: ما الذي يجمع بين الثقافة والاقتصاد؟ وسبب نفور الاقتصاديين عن هذا الموضوع هو الاتهام الذي قد يوجّه إليهم بابتذال الثقافة وتسطيحها من خلال تسليعها وإيجاد القيمة الاقتصادية لها، إلا أن مؤلف الكتاب أجاب عن هذا السؤال بمنهج علمي رصين، مستنداً على تعريفات عالمية للثقافة ولصناعة الثقافة، ومقارناً بين الاقتصاد الثقافي وغيره من أنواع الاقتصادات، وموضحاً خصوصيات الاقتصاد الثقافي، ودوره الإيجابي على الاقتصادات الوطنية.
وجاء كتاب «الاقتصاد الثقافي» من مؤلفٍ ينتمي إلى المجتمعين الاقتصادي والثقافي، وهو ما جعله ينظر إلى هذا الموضوع بشكل متوازنٍ غير منحاز، فبعد عرض عدة تعريفات موثوقة للثقافة، أسس الكاتب لقيمة الاقتصاد الثقافي الكمّية في الاقتصادات الوطنية، وبحث في القيمة الاقتصادية للثقافة بمنتجاتها المتعددة، دون التقليل من قيمتها الفنية والأدبية الإبداعية، وهو أمر كان وما زال موضع جدل في الأوساط الثقافية، ولكن الكاتب بيّن الاختلاف بين القيمتين بشكل موضوعي من خلال المبادئ الاقتصادية الصارمة التي تفرّق بين القيمة التبادلية (السعر) والقيمة الاستعمالية (المنفعة) للسلع، ضارباً مثالاً واقعياً وهو القيمة التبادلية المرتفعة للمجوهرات التي تقل منفعتها كثيراً عن الماء ذي القيمة التبادلية المنخفضة، دون أن ينفي أو يقلل من قيمة كليهما.
وينظر الكتاب إلى المنتجات الثقافية بصفتها منتجاتٍ ذات طابع خاص، تنطبق عليها القوانين الاقتصادية مثل العرض والطلب كما هي الحال مع المنتجات التقليدية، ولكنها - أي المنتجات الثقافية - تختلف في بعض المعايير، فمحددات الطلب على المنتجات الثقافية ترتبط بالدخل والسن وأسعار المنتجات وذائقة المستهلك، كما أنها ترتبط بشكل كبير بالوقت المتاح لديه، والطلب عليها يتأثر بشكل كبير بآراء النقاد الفنيين المتخصصين، الذين يوجّهون المستهلكين نحو بعض المنتجات الثقافية دون الأخرى، وكذلك فإن محددات العرض للمنتجات الثقافية تختلف عن المنتجات التقليدية، وتتباين فيما بينها، وذلك لأن الإبداع هو أحد عناصرها الرئيسية، وهو في الغالب المادة الخام للمنتجات الثقافية، وعرض المنتجات الثقافية لا يكون استجابة لحاجة في السوق، بل لحالة إبداع لدى منتجيها.
وأكد المؤلف على القيمة الاقتصادية المهمة لقطاع الثقافة الذي ينطبق عليه ما ينطبق على بقية القطاعات، فهو يسهم بشكل فاعل في خلق وظائف، فالصناعات الثقافية والإبداعية مسؤولة عن 6.2 في المائة من فرص العمل عالمياً، مولّدة نحو 50 مليون وظيفة، والقطاع الثقافي من أكثر القطاعات توظيفاً للشباب ممن تتراوح أعمارهم بين 15 و29 سنة، كما أن لقطاع الثقافة دوراً إيجابياً في تعزيز الميزان التجاري وميزان المدفوعات للدول، والمتأمل في دول مثل كوريا الجنوبية والهند وتركيا والمكسيك يدرك الدور الاقتصادي الكبير التي تؤديه الثقافة في الصادرات الوطنية، وزيادة هذه الصادرات عادة ما ترتبط بتعزيز القوة الناعمة للدول، والدارس للتاريخ يدرك أن أحد أكبر أسباب تفوق الولايات المتحدة على الاتحاد السوفياتي السابق تمثل في قدرة الأولى على تصدير ثقافتها للعالم من خلال منتجاتها الثقافية، بينما انطوى الاتحاد السوفياتي - على الرغم من ثقافته العميقة - على نفسه وداخل حدوده دون تأثير ثقافي عالمي يذكر.
ولم يكتفِ الكاتب بالجانب النظري من الاقتصاد الثقافي، بل أسقطه على الواقع السعودي من خلال الاستراتيجية الوطنية للثقافة، التي جعلت الاقتصاد إحدى ثلاثِ ركائز لاستراتيجيتها، لتتناغم مع بقية الاستراتيجيات الوطنية التي جعلت الجانب الاقتصادي في صميمها، ولكيلا ينعزل القطاع الثقافي عن بقية القطاعات، ويشمله ما يشملها من نمو وازدهار، كما أوضح الكتاب عدداً من مبادرات ومشاريع الدول في هذا المجال، وهو ما يؤكد الاتجاه العالمي نحو تدخل الحكومات في سياسات الاقتصاد الثقافي، وعدم تركها للأسواق الحرة.
لقد أثرى كتاب «الاقتصاد الثقافي» المكتبة العربية عن موضوع جوهري للثقافة، فغض الطرف عن الجانب الاقتصادي في الثقافة لا يعني عدم وجوده، والالتفات له يعزز استدامة القطاع الثقافي، وهو الهدف السامي لهذه الدراسة التي أوصت بالتوسع في أساليب تمويل قطاع الاقتصاد الثقافي، والاستفادة من النماذج التمويلية المستجدة، ونشر الوعي في أوساط المستثمرين بأهمية الاقتصاد الثقافي، على غرار ما يتم بقطاعات أخرى من رفع مستوى الوعي لدى المستثمرين، مثل الاستدامة البيئة والمنفعة الاجتماعية وغير ذلك، وتعزيز البنية التحتية الأساسية الثقافية التي تهيئ بيئة مشجعة للاستثمار في الثقافة، ومن ضمن ذلك توفير بيانات وإحصاءات عن مكونات القطاع، وإعداد ونشر تقارير دورية عنه تزيد من الشفافية التي عادة ما يبحث عنها المستثمرون.
نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط


