حرب الأسعار تلتهم أرباح شركات الأسمنت السعودية

16/11/2025 0
حسين بن حمد الرقيب

على الرغم من أن قطاع الأسمنت السعودي حقق نموًا في المبيعات في الربع الثالث وحده بنسبة 12% مقارنة بالربع نفسه من العام السابق، إلا أن هذا النمو الإيجابي في حجم المبيعات لم يجد طريقه إلى الربحية، بل جاءت النتائج معاكسة تمامًا، حيث تراجعت أرباح القطاع بأكثر من 52%، وهو تراجع يعكس حجم الضغوط الهيكلية التي يعيشها القطاع خلال الفترة الحالية. هذا التناقض الواضح بين ارتفاع المبيعات وانخفاض الأرباح يعكس أن المشكلة ليست في الطلب المباشر، بل في بنية السوق نفسها التي باتت تعمل تحت ضغط فائض ضخم في الطاقة الإنتاجية يتجاوز الاحتياج الفعلي، ما اضطر الشركات إلى الدخول في حرب أسعار مفتوحة لتصريف الكميات المنتجة، حتى وإن جاء ذلك على حساب الربحية.

السوق اليوم لا يعاني من نقص في الطلب بقدر ما يعاني من تخمة في المعروض، خصوصًا في مخزون الكلنكر، المادة الأساسية لصناعة الأسمنت. الشركات تجد نفسها مضطرة إلى تخفيض هذا المخزون بأي وسيلة، لأن تخزين الكلنكر مكلف ماليًا، ويحتاج مساحات تخزين كبيرة، والأهم أنه قد يفقد خصائصه خلال عام واحد، ما يجعل الاحتفاظ به لفترات طويلة غير مجدٍ تشغيلًا ولا ماليًا. هذا الواقع دفع الشركات إلى زيادة المبيعات بأسعار منخفضة جدًا، ليس بحثًا عن التوسع، بل هروبًا من عبء التخزين، وهو ما أدى إلى تآكل هوامش الأرباح بشكل كبير وخلق بيئة تنافسية شرسة تدفع نحو البيع عند أسعار تقل عن مستويات الربحية التقليدية.

القصة الأكثر غرابة في نتائج الشركات هي قصة أسمنت اليمامة وهي التي تمتلك أفضل خطوط إنتاج حديثة بتكاليف أقل بفضل استخدام الغاز الطبيعي بديلا عن الوقود الثقيل، إلا أن هذه الميزة لم تنعكس على أداء الشركة والتي تمكنت من رفع مبيعاتها بنسبة 66% بينما تراجعت أرباحها بنسبة 63% وهذا يؤكد أن الشركة لجأت إلى تخفيض كبير في الأسعار من أجل زيادة المبيعات، هذه التباينات تطرح سؤالًا مهمًا حول ما إذا كانت الشركات التي تراجعت أرباحها بشكل كبير ضحية للسوق، أم أنها تأخرت في تبني استراتيجيات تشغيلية حديثة. بعض الشركات أدركت مبكرًا أن الخروج من الأزمة لن يكون عبر زيادة الإنتاج، بل عبر تحسين الكفاءة. ولهذا اتجهت شركات إلى التحول الكامل نحو الغاز الطبيعي، وهي خطوة ستنعكس على تكاليف التشغيل في السنوات القادمة، بينما تعمل بعض الشركات على مشاريع لرفع كفاءة الطاقة وتقليل تكلفة إنتاج الوحدة. هذه الخطوات، رغم أنها لا تمنع بالكامل تأثير حرب الأسعار، إلا أنها تمنح الشركات قدرة أكبر على الصمود وتخفف من حدة التراجع في الأرباح مستقبلاً.

الربع الثالث تحديدًا كان مثالًا واضحًا لهذا التناقض بين الارتفاع في الكميات المباعة وبين الضعف في الربحية. المبيعات ارتفعت كما أسلفنا بنسبة 12% مقارنة بنفس الربع من العام الماضي، لكنها لم تُترجم إلى أرباح، لأن الأسعار التي بيعت بها هذه الكميات كانت منخفضة للغاية بسبب رغبة الشركات في تصريف مخزون الكلنكر. وهذا ما جعل زيادة المبيعات تبدو أشبه بزيادة شكلية، هدفها التخلص من المخزون بأقل الخسائر الممكنة دون أي قدرة حقيقية على تحسين النتائج المالية. القطاع اليوم يعيش مرحلة تصحيح مؤلمة لكنها ضرورية. فالسوق لا يمكن أن يستمر بطاقة إنتاجية تفوق الطلب بهذه الصورة، ولا يمكن للشركات أن تستمر في حرب أسعار تستنزف الجميع دون أن يخرج منها منتصر.

الواقع يقول إن الشركات الأكثر كفاءة وتطويرًا لعملياتها ستكون الأقدر على البقاء والتوسع مستقبلًا، بينما قد تجد الشركات الأقل كفاءة نفسها مضطرة إلى إعادة الهيكلة أو حتى الاندماج لتقليل التكاليف ورفع كفاءة التشغيل، ورغم الضغوط الحالية، إلا أن القطاع يمتلك فرصًا كبيرة على المدى المتوسط والبعيد، خصوصًا مع استمرار المشاريع الحكومية الكبرى في البنية التحتية والعقار. لكن الاستفادة من هذه الفرص تتطلب من الشركات إعادة النظر في استراتيجياتها، وتخفيض تكاليفها، وتحسين إدارتها لمخزون الكلنكر، والانتقال من سياسة رد الفعل إلى سياسة التخطيط الاستراتيجي. المرحلة المقبلة لن تكون لمن يبيع أكثر، بل لمن ينتج بكفاءة أعلى، ويستطيع التحكم في تكاليف التشغيل، ويبتعد عن الدخول في حرب أسعار لا نهاية لها. بهذا المشهد، يمكن القول إن القطاع يقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة عنوانها التوازن بين الإنتاج والطلب، والقدرة على تحقيق ربحية مستدامة، والانتقال إلى نموذج تشغيلي أكثر مرونة وذكاء، وهي مرحلة تبدو صعبة لكنها تحمل الكثير من الفرص لمن يستعد لها جيدًا.

 

نقلا عن الرياض