إدارة الالتزام في قطاع التأمين حجر الأساس في بناء سوق ناضج ومستدام

23/10/2025 0
عبد الله عبد الرحمن خلف المطيلق

في خضم التحولات الكبرى التي يشهدها الاقتصاد السعودي، يبرز قطاع التأمين كأحد أكثر القطاعات حيوية وتطورًا، خاصة بعد التحوّل التنظيمي العميق الذي حدث في نوفمبر 2023، حين أصبحت هيئة التأمين جهة تنظيمية مستقلة تتولى الإشراف الموحد على القطاع. ومنذ ذلك الحين، شهدت السوق نقلة نوعية على مستوى الأداء والتنظيم والنمو. فقد سجل القطاع نموًا سنويًا بلغ 16.9% في الربع الثالث من عام 2024، مدفوعًا بارتفاع لافت في التأمين على المركبات بنسبة 22.7%، إلى جانب نمو في قطاعات التأمين الأخرى، ما يعكس الأثر المباشر للإصلاحات التنظيمية الجديدة.

في هذا السياق، لم تعد إدارة الالتزام مجرّد وحدة داخلية معنية بتطبيق الأنظمة، بل أصبحت لاعبًا محوريًا وشريكًا استراتيجيًا في صياغة ملامح السوق وضمان تعافيه واستدامته. دورها بات يتمحور حول بناء الثقة، وفرض الالتزام بالأنظمة، وتحقيق التوازن بين الطموح الربحي والامتثال التنظيمي، مما يضعها في قلب رحلة التحول التي تعيشها السوق السعودية.

لقد أسهم التحول الرقمي الذي تقوده الهيئة في إحداث نقلة نوعية في طريقة عمل إدارات الالتزام، حيث أصبحت الأدوات الرقمية مثل أنظمة البلاغات والمطالبات وتتبعها عبر منصات كـ"نجم" وسيلة فاعلة لتعزيز الشفافية، وتسريع الإجراءات، وتمكين الرقابة الآنية على العمليات. هذا التطور منح إدارات الالتزام قدرة أكبر على الربط بين السياسات التنظيمية والتطبيق العملي داخل الشركات، بشكل يقلّص فجوة التنفيذ ويعزز من رضا العملاء.

وإلى جانب التمكين الرقمي، جاءت الرقابة التنظيمية الحازمة لتؤكد جدية الهيئة في ترسيخ المعايير. ففي 25 مايو 2025 صدرت هيئة التأمين قرارات نهائية بإلغاء تراخيص 28 شركة تعمل في قطاع التأمين والوساطة التأميني، في خطوة تؤكد أن الالتزام لم يعد خيارًا، بل شرطًا للبقاء والمنافسة، بهدف دعم وتعزيز فعالية القطاع واستقراره، ورفع ثقة المتعاملين فيه، بما يسهم في حماية حقوق المؤمن لهم والمستفيدين، ويعزز الاستقرار المالي للسوق.

ولأن الحوكمة الفاعلة تبدأ من الداخل، فرض النظام الجديد متطلبات صارمة بإنشاء أقسام متخصصة للحوكمة، وإدارة المخاطر، والتدقيق الداخلي، والتقييم الاكتواري، وهو ما يتطلب من إدارات الالتزام القيام بدور تنسيقي مركزي بين هذه الأقسام، وضمان تكاملها مع الأهداف التنظيمية للشركة. هذا التحوّل لم يُعد الالتزام مجرد وظيفة تقليدية، بل عملية مؤسسية ذات أثر مباشر على الأداء العام والثقة السوقية.

ويبرز هذا الدور بشكل أكثر وضوحًا في قطاع التأمين على المركبات، الذي يُعد من أكثر القطاعات تداخلًا مع حياة الأفراد اليومية. في هذا المجال، تعمل إدارات الالتزام على التأكد من الامتثال الكامل لتحديثات وثائق التأمين الإلزامي والتأمين الشامل، كما تتولى متابعة شكاوى العملاء، وضمان الإفصاح الكامل عن الشروط والأسعار، ما يرفع من مستوى الشفافية ويقلل من النزاعات. كما تمثل مكافحة الاحتيال تحديًا بارزًا في هذا القطاع، نظراً لارتفاع معدلاته، وهو ما يتطلب من إدارات الالتزام تطوير آليات لرصد الأنماط المشبوهة، والتعاون مع الجهات المعنية لردعها.

غير أن هذا الدور المتعاظم لا يخلو من التحديات. فإدارات الالتزام تواجه واقعًا تنظيميًا متغيرًا بسرعة، ما يفرض تحديثًا دائمًا للإجراءات والسياسات، إلى جانب التحدي المتمثل في الموازنة بين الالتزام الصارم بالأنظمة وتحقيق العائد التجاري.

كما أن الحاجة إلى أدوات تقنية متطورة لتحليل البيانات ورصد المخالفات بشكل استباقي باتت ضرورة لا رفاهية، خصوصًا مع ازدياد حجم العمليات وتعقيداتها، رغم هذه التحديات، فإن آفاق إدارة الالتزام تبدو واعدة، خاصة مع تسارع تبني التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة، والتي من شأنها أن تحوّل الالتزام إلى منظومة ذكية قادرة على التنبؤ بالمخاطر واتخاذ قرارات فورية تحسّن من جودة الخدمة وتقلل من التكاليف التشغيلية.

وفي النهاية، يمكن القول إن إدارة الالتزام لم تعد تلك الإدارة الخفية في الهيكل التنظيمي، بل أصبحت "العقل التنظيمي" الذي يربط بين تطلعات الجهات الرقابية وطموحات السوق. فهي تضمن حماية العملاء، وتُعزز الثقة المؤسسية، وتُسهم في بناء سوق تأميني ناضج يتماشى مع مستهدفات رؤية السعودية 2030، في التحول نحو اقتصاد معرفي قائم على الشفافية، والكفاءة، والحوكمة الفاعلة.

 

خاص_الفابيتا