في وقت كان العالم ينتظر فيه لقاءً بين الرئيسين الأميركي والصيني خلال أسابيع قليلة؛ لقاء كان يتوقع منه اتفاق تجاري بين أكبر اقتصادَين في العالم، جاءت الصين لتفجّر مفاجأة مدويّة في ساحة الحرب الاقتصادية، لتفتح بذلك فصلاً إضافياً في هذه الحرب التي ما إن يَملّ العالم منها حتى تفاجئه بتصعيد جديد يحبس أنفاسه، ويعبث بأسواقه، ويخلط حساباته، ويبعثر سلاسل إمداده... فما التصعيد الصيني الذي وصفه ترمب بالشرير والعدائي؟ وما انعكاساته؟ وهل بالغت الصين فيه؟
هل تذكرون سلاح الرقائق الإلكترونية الذي استخدمه الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، للحد من تفوق الصين في الصناعات الاستراتيجية؟ لقد استعملت الصين السلاح نفسه ضد الولايات المتحدة، فقررت الأسبوع الماضي ألا يصدَّر أي معدن من المعادن النادرة التي تنتجها إلا بعد موافقة الحكومة الصينية. بهذا القرار، أصبح كثير من الدول في قبضة الصين؛ وذلك لأن الصين تهيمن على 70 في المائة من إنتاج المعادن النادرة عالمياً، و90 في المائة من عمليات الفصل والمعالجة الكيميائية، و93 في المائة من تصنيع المغناطيسات المستخدمة في السيارات والهواتف والطائرات... أي إن الصين، باتخاذها هذا القرار، حولت هيمنتها الصناعية والإنتاجية على المعادن النادرة إلى سيطرة سياسية، وهي بذلك لم تعد تنتج المعادن النادرة فقط، بل تتحكم في كيفية استخدامها ببقية العالم.
هذا القرار ذو أثر مباشر على الصناعات العسكرية الأميركية، حيث إن المعادن النادرة أساسية في صناعة محركات الطائرات وأجهزة التوجيه في الصواريخ وأنظمة الليزر والغواصات. وقد وصف المحللون الخطوة الصينية بأنها تضرب الولايات المتحدة في أضعف نقاطها، فلا شيء يجعل أميركا تتحرك مثل استهداف صناعاتها الدفاعية، ولكن المعادن النادرة مرتبطة كذلك بالرقائق الإلكترونية التي حرمت الولايات المتحدة الصين منها، فشركات الرقائق التي تعتمد على المعادن النادرة في منتجاتها ستواجه تهديداً في تأخير الإنتاج؛ مما يعني تباطؤاً في إنتاج التقنيات المتقدمة، وارتفاع الأسعار عالمياً.
وقد ثارت ثائرة ترمب بعد هذا القرار، وهو أمر متوقع، فكيف لدولة أن تضغط على الرجل الذي يتلذذ بالضغط على الدول؟ وعادة ما تكون تصعيدات ترمب حادة، ولم يختلف رد فعله هذا عمّا هو معتاد، فقد قال إن الصين «أصبحت عدائية، وتحاول جعل العالم أسيراً لتقنياتها»، ولكن، أَوَلَيس ذلك بالضبط ما حاول ترمب فعله مع الصين بحرمانها من الرقائق الإلكترونية المتقدمة؟ كذلك وصف الرئيس الأميركي ما فعلته الصين بأنه «عار أخلاقي في التعامل بين الأمم». قائل هذه العبارة في سياق المعادن النادرة، هو من اشترط على أوكرانيا قبل أشهر قليلة صفقة لمعادنها النادرة مقابل تدخل بلاده لإيقاف الحرب الدموية مع روسيا، وترمب استنفد بالفعل كثيراً من أسلحته أمام الصين، فسلاح الرسوم الجمركية يضر بالولايات المتحدة كما يفعل بالصين، ولو طبق التعريفة الجمركية التي أعلن عنها بنسبة مائة في المائة فوق الرسوم الحالية البالغة 30 في المائة، فقد يعني ذلك حظراً تجارياً كاملاً، وهو خطوة لن يتخذها ترمب لمجرد الانتقام.
والواقع أن القرار الذي اتخذته الصين يجعلها، كما وصف أحدهم، «تمسك برقبة التقنية في العالم»، وهو قرار يبدو كأنه إعلان للعالم أن الصين لديها بالفعل قوة استراتيجية في العالم، وأنها قوة لا يُستهان بها في حاضر العالم وفي مستقبله. فالقرار يبين أن الصين شريكة في قرار تصنيع التقنيات والأسلحة في معظم دول العالم، وبالتأكيد فإن الولايات المتحدة لن ترضى بذلك، والصين خلال سنوات طويلة سيطرت على مكامن المعادن النادرة في العالم، وأصبحت لديها تقنيات متقدمة لمعالجة هذه المعادن لا تملكها حتى الولايات المتحدة نفسها! ومستبعد جداً ألا تكون الولايات المتحدة قد حسبت حساب إمكانية أن تتخذ الصين مثل هذا القرار، ولكن الظاهر أنها توقعت أن احتمالية إقدامها عليه ضعيفة.
لقد استُفزت الصين لسنوات من العالم الغربي، ويبدو أنها اليوم اكتفت من ذلك، فمنذ عام 2017 والعالم الغربي يبحث عن المبررات لمعاقبة الصين وتحجيم نموها الاقتصادي، ومن هذه المبررات: العجز التجاري لمصلحة الصين، والدعم الحكومي الصيني للصناعات، وإغراق الأسواق العالمية بـ«الحديد والصلب» المدعوم، وعدم فتح الأسواق الصينية أمام الشركات الأوروبية، والنقل القسري للتقنيات، والهندسة العكسية للتقنيات، وعدم شراء المنتجات الزراعية الأميركية، وشراء النفط الروسي... واستُخدم ضد الصين كثير من الأسلحة؛ من اعتقالِ تنفيذيين صينيين، إلى فرضِ مئات الرسوم الجمركية، وإيقافِ تصدير الرقائق الإلكترونية المتقدمة، ومنعِ استخدام البرمجيات الأميركية لشركة «هواوي»، ومنعِ التعاقد مع شركات شبكات الجيل الخامس الصينية، ومنعِ استحواذ الشركات الصينية على مثيلاتها الأميركية... كل ذلك جعل الصين ترفع الورقة الأخيرة، وهي ورقة المعادن النادرة، لتذكّر العالم الغربي بأن الموادَ الخام لمنتجاته المتقدمة قرارٌ بيد الحكومة الصينية.
نقلا عن الشرق الأوسط