حرب المواهب

24/09/2025 0
د. عبدالله الردادي

منذ أن صاغت شركات الاستشارات الكبرى مصطلح «حرب المواهب» في تسعينيات القرن الماضي، بدا الأمر للوهلة الأولى وكأنه مجرد شعار إداري جذاب، غير أن العقدين الأخيرين كشفا أن هذا المصطلح واقعي جداً، فالمواهب هي محرك الاقتصادات، وأصبحت الحرب عليها تشمل الدول بعد أن اقتصرت على الشركات، وأعباء هذه الحرب أضخم مما يُتصور، فالدول الغنية التي تنجح في جذب العقول، تتحمل تكلفة باهظة لدمجها وتأهيلها، والدول النامية التي تخسر أبناءها الموهوبين، تدفع فاتورة نمو أبطأ، ولكن السنوات الأخيرة شهدت حركات مضادة لهذه الحرب، وهي الحركات الشعوبية المناهضة للهجرة، والتي تصدرت المشهد في كبريات الديمقراطيات العالمية من اليابان إلى بريطانيا وبالطبع الولايات المتحدة.

أبرز ما استجد في هذا الموضوع هو القرار التنفيذي للرئيس ترمب، الذي فرض رسوماً سنوية قدرها 100 ألف دولار لاستخراج تأشيرة العمالة المهرة، مبرراً هذا القرار بسوء استخدام النظام القديم لجلب اليد العاملة للولايات المتحدة، هذا القرار سيؤثر بالتأكيد على قدرة أميركا على استقطاب المواهب، في زمن تتحارب فيه الدول على تقنيات استراتيجية مثل الذكاء الاصطناعي، تقوم على المواهب، وبالتأكيد فإن قرار ترمب جاء استجابة لمطالبات شعبية رفعت شعارات «استعادة الوظائف» و«سرقة الوظائف»، ولكنه مثّل أيضاً تكلفة اقتصادية مباشرة؛ إذ ارتفعت كلفة استقدام الكفاءات بنسبة قاربت 20 في المائة بحسب تقديرات مكاتب الهجرة، وأثّر ذلك على تنافسية الشركات التي تعتمد على مهندسين وعلماء وباحثين من مختلف أنحاء العالم، وقد أظهرت بيانات وزارة العمل الأميركية أن طلبات التأشيرة تراجعت بنحو 15 في المائة في العام الأول بعد هذه الإجراءات، ما انعكس على قدرة الشركات الناشئة خصوصاً على التوسع.

نفس الشعارات رفعتها المظاهرات في بريطانيا قبل خروجها من الاتحاد الأوروبي، واستمرت في رفعها بداية هذا الشهر، على الرغم من كل ما عانته بريطانيا خلال السنوات الأخيرة من نقص اليد العاملة، فبعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، فقدت الجامعات والمستشفيات والشركات البريطانية سهولة الوصول إلى سوق العمل الأوروبية، والنقص الحاد في الأطباء والممرضين والمهندسين بعد الخروج كشف أن الشعارات السياسية لم تُترجم إلى بدائل عملية، وأن تكلفة رفض الهجرة الماهرة تتجلى في تراجع الخدمات العامة وزيادة الأعباء على المالية العامة، وقدّرت دراسة صادرة عن كلية لندن للاقتصاد أن فجوة الكفاءات بعد «بريكست» كلّفت الاقتصاد البريطاني نحو 7 مليارات جنيه إسترليني سنوياً في صورة إنتاجية مفقودة ونفقات إضافية للتدريب والاستقدام.

وحتى اليابان، وهي إحدى أكبر الدول ارتفاعاً في معدل الأعمار وأكثرها انخفاضاً في القوى العاملة، شهدت مظاهرات واسعة ضد إدخال عمالة أجنبية، لتضع الاقتصاد بين حاجته العاجلة للعمالة الماهرة ورفض شعبي يخشى التغيير الديموغرافي، وأشارت تقارير حكومية إلى أن اليابان ستحتاج إلى ما يقارب 6.7 مليون عامل إضافي بحلول 2030 للحفاظ على وتيرة النمو الحالية، ما يجعل رفض الهجرة الماهرة مسألة مكلفة اقتصادياً لا يمكن تجاوزها بالشعارات.

وهنا تظهر المفارقة في حرب المواهب، فالدول الغنية التي تغلق أبوابها تحت ضغط الحركات الشعوبية تخسر الكفاءات التي تحتاج إليها بشدة وهي بذلك تؤثر سلباً على نموها الاقتصادي، والدول النامية التي تحرص على هجرة أبنائها للخارج لإيجاد فرص عمل ودعم الاقتصاد المحلي بالحوالات الشهرية تدفع ثمناً باهظاً في صورة بطء في التنمية وفجوات متزايدة في الدخل والخدمات، وفي كلا الطرفين هناك رغبة عارمة للاستمرار في التوجّه نفسه، ولا يبدو أن هناك توجهاً لحل طويل المدى.

لقد توقع المحللون في الفترات الماضية أن حرب المواهب ستشتعل مع وضوح الأثر الاستراتيجي للتقنيات، وأن الدول ستتحارب فيما بينها لجلب الشركات والمواهب لها، ولكن الواقع لا يبدو بهذا الوضوح، وأصبح من الجلي أن حرب المواهب لا يمكن النظر إليها بمعزل عن الحركات الشعوبية، فالقرارات تتخذ تحت ضغط الشارع، وهي قرارات تحقق مكاسب قصيرة الأمد، ولكنها تترك آثاراً اقتصادية طويلة الأثر، منها ارتفاع تكاليف استقدام المهارات، وتراجع القدرة التنافسية، والضغوط على الخدمات العامة، وهكذا تحولت هذه الحرب من مسألة إدارية اقتصادية بحتة، إلى ساحة للمزايدات تتقاطع فيها السياسة بالاقتصاد بالمجتمع، ويبقى السؤال المطروح؛ هل تستطيع الحكومات إيجاد معادلة توازن بين حاجة الاقتصاد إلى المواهب، والضغوط الاجتماعية التي ترفض هجرة اليد العاملة؟

 

نقلا عن الشرق الأوسط