حين ننظر إلى مسار السوق المالية السعودية خلال العقد الأخير، يتضح أن ما يجري اليوم ليس خطوة منفصلة أو عابرة، بل هو امتداد طبيعي لمسار إصلاحي بدأ منذ إطلاق “رؤية السعودية 2030”، الرؤية التي جعلت من السوق المالية إحدى بوابات التحول الاقتصادي الكبرى، وأحد أهم جسور العبور إلى الاقتصاد العالمي، فالدعوة التي أطلقتها هيئة السوق المالية لإبداء المرئيات حول مشروع فتح السوق الرئيسية لجميع فئات المستثمرين الأجانب غير المقيمين ليست مجرد تعديل تنظيمي، بل حدث مفصلي يعيد رسم خريطة الاستثمار في المملكة، ويؤسس لمرحلة جديدة عنوانها الانفتاح الكامل والثقة العميقة في كفاءة السوق السعودية ونضجها المؤسسي.
عندما فُتح الباب لأول مرة أمام المستثمرين الأجانب المؤهلين في عام 2015، كانت الهيئة تتحرك بخطوات محسوبة، تحكمها قاعدة “التحرير التدريجي” كان الهدف هو بناء سوق قوية من الداخل، ثم الانفتاح عليها للخارج من موقع قوة، اليوم بعد عقد تقريباً، يبدو أن الهيئة ترى أن البنية التحتية التنظيمية والتقنية، ومستوى الشفافية والإفصاح، وتطور الحوكمة في الشركات المدرجة، قد بلغ درجة من النضج تسمح بجعل السوق السعودية سوقاً دولية بحق، يمكن أن تستقطب رؤوس أموال عالمية دون الحاجة إلى “وسائط” أو اشتراطات تأهيلية، هذا التحول يحمل في طياته دلالات أعمق من مجرد السماح للمستثمرين الأجانب بالدخول المباشر، فهو يعكس تحولاً في فلسفة التنظيم المالي من الحماية المفرطة إلى الانفتاح المنضبط، فإلغاء مفهوم “المستثمر الأجنبي المؤهل” يعني أن السوق لم تعد تخشى من تدفقات خارجية مفاجئة، وأنها باتت تمتلك أدوات كافية لإدارة السيولة والتقلبات المحتملة.
كما أن إلغاء اتفاقيات المبادلة التي كانت تسمح للمستثمر الأجنبي بالانتفاع الاقتصادي دون ملكية مباشرة يزيل أحد أكثر الحواجز الرمزية التي كانت تفصل بين السوق المحلية والمستثمر العالمي، ومن زاوية أخرى، فإن تصريح عضو مجلس إدارة هيئة السوق المالية لوكالة بلومبرغ بشأن نية المملكة رفع سقف ملكية الأجانب في الشركات السعودية إلى مستويات أعلى من 49 % يشكل رسالة واضحة للأسواق الدولية مفادها أن السعودية تتجه نحو الانفتاح الكامل على الاستثمار الأجنبي المباشر في سوق الأسهم، هذا التوجه لا يعني فقط جذب سيولة إضافية، بل إعادة صياغة هيكل الملكية في السوق بطريقة تجعل الشركات المدرجة أكثر عرضة للمنافسة والرقابة من المستثمرين العالميين، وهو ما يرفع من جودة الإدارة والشفافية ويزيد من انضباط الأداء المالي للشركات المدرجة، الأرقام تتحدث عن نفسها.
فقد بلغت ملكية المستثمرين الدوليين في نهاية الربع الثالث من 2025 في السوق الرئيسية نحو 444 مليار ريال وارتفعت نسبة الملكية الأجنبية الى 4.8 % من قيمة تاسي السوقية هذه القفزة لم تأتِ من فراغ، بل هي نتيجة لتدرج الهيئة في فتح السوق ضمن مراحل دقيقة بدأت بتحديد فئات معينة، مروراً بزيادة نطاق المؤهلين، وصولاً إلى ما نراه اليوم من مشروع فتحٍ كامل للسوق الرئيسية أمام جميع المستثمرين الأجانب، هذا التطور لا يمكن فصله عن السياق الأوسع الذي تعيشه المملكة، حيث أصبحت السعودية اليوم جزءاً لا يتجزأ من خارطة الأسواق الناشئة الكبرى في المؤشرات العالمية مثل MSCI وFTSE Russell وS&P Dow Jones، مما جعلها محط أنظار صناديق الثروة السيادية وصناديق التقاعد والمؤشرات العالمية،
فتح السوق بالكامل سيعزز هذه المكانة أكثر، إذ إن العديد من المستثمرين العالميين الذين كانوا يترددون بسبب تعقيدات التأهيل أو نظام المبادلة سيجدون في هذا المشروع فرصة مباشرة للدخول والمشاركة في النمو السعودي، لكن الأهم من كل ذلك، أن المشروع الجديد يرسل إشارة قوية للأسواق الدولية بأن السعودية واثقة من متانة اقتصادها ومن كفاءة بنيتها التشريعية والرقابية، ففتح الأبواب بهذا الشكل يعني أن صناع القرار لم يعودوا ينظرون إلى السوق من زاوية الحماية، بل من زاوية المنافسة، وهذا ما تحتاجه أي سوق تسعى للتحول إلى مركز مالي إقليمي ودولي.
من الناحية الاقتصادية، سيسهم هذا الانفتاح في زيادة عمق السوق ورفع حجم التداولات والسيولة اليومية، وهو ما سيحسن من كفاءة التسعير للأسهم، ويجعل السوق أكثر استجابة للمتغيرات الاقتصادية الحقيقية، كما أن دخول مستثمرين عالميين سيجلب معهم ممارسات استثمارية أكثر احترافية، ويخلق منافسة نوعية في طريقة تحليل وتقييم الشركات، ما ينعكس إيجاباً على جودة التقارير المالية والإفصاحات، ولا يمكن إغفال الجانب الرمزي لهذا القرار، فهو بمثابة إعلان أن السوق السعودية لم تعد “سوقاً ناشئة” بالمفهوم التقليدي، بل “سوقاً عالمية في طور الصعود” فتح السوق بالكامل ليس مجرد جاذب للأموال، بل هو اعتراف ضمني بأن المملكة أصبحت قادرة على التنافس مع أسواق مثل هونغ كونغ وسنغافورة في الشرق، وفرانكفورت ولندن في الغرب، خاصة مع تطور التشريعات، واعتماد منظومة “الهوية الرقمية للمستثمرين”، وربط الأنظمة البنكية بشبكات المقاصة العالمية، وهي خطوات كانت في الماضي حكراً على الأسواق المتقدمة،
من جهة أخرى، فإن رفع نسبة تملك الأجانب إلى ما فوق 49 %، متى ما تم تطبيقه فعلياً، سيحمل آثاراً هيكلية على المدى الطويل، فسيؤدي إلى تدويل حقيقي لملكية الشركات السعودية، ويدفعها لتبني ممارسات عالمية في الحوكمة والإدارة، كما سيجعلها أكثر حساسية لمتطلبات المستثمرين الدوليين فيما يتعلق بالشفافية والاستدامة والإفصاح البيئي والاجتماعي، وهي معايير أصبحت اليوم جزءاً من تقييم الشركات في أسواق المال العالمية.
ومع أن البعض قد يتوجس من تأثير تدفق السيولة الأجنبية على استقرار السوق، فإن التجارب السابقة تشير إلى أن السوق السعودية نجحت في امتصاص موجات دخول وخروج المستثمرين دون اضطرابات تُذكر، بفضل هيكلها العميق ووجود قاعدة محلية قوية من الصناديق الحكومية والمؤسسات الاستثمارية المحلية، إضافة إلى ذلك، فإن زيادة مشاركة الأجانب عادة ما تسهم في تقليل تذبذب الأسعار على المدى الطويل، لأنها تضيف طبقة من المستثمرين ذوي الآفاق الزمنية الأبعد، مثل الصناديق السيادية وصناديق التقاعد، بخلاف المضاربين قصيري الأجل.
الهيئة من جانبها لم تترك الأمور للمصادفة، فقد سبقت هذه الخطوة إجراءات مكملة مثل تسهيل فتح الحسابات الاستثمارية لبعض الفئات من المستثمرين الأجانب الطبيعيين المقيمين في دول الخليج، أو ممن سبق لهم الإقامة في المملكة، وهي خطوة تؤكد أن الهيئة تعمل وفق استراتيجية متكاملة وليس عبر قرارات منفصلة، الهدف النهائي هو بناء سوق مالية تكون جزءاً عضوياً من النظام المالي العالمي، وفي الوقت نفسه داعماً للنمو الاقتصادي المحلي، على المستوى الكلي فإن هذا الانفتاح يتناغم مع أهداف زيادة جاذبية السوق المحلية كمنصة تمويل واستثمار للشركات السعودية والعالمية، ويعزز من مكانة الرياض كمركز مالي دولي تحت مظلة "برنامج تطوير القطاع المالي" كما أن تدفق السيولة الأجنبية سيخلق فرصاً أكبر للشركات المتوسطة والصغيرة للوصول إلى التمويل عبر الإدراج، مما يدعم التنويع الاقتصادي ويدفع النمو في القطاعات غير النفطية.
في المحصلة، ما تقوم به هيئة السوق المالية يمثل لحظة نضج في مسار تطوير السوق السعودية، فالانفتاح الكامل ليس غاية، بل وسيلة لبناء سوق تنافسية وجاذبة تعكس قوة الاقتصاد السعودي وتنقلها للعالم عبر استثمارات وشراكات مستدامة. وتأتي هذه الخطوة في وقت تتسابق فيه الدول لاستقطاب رؤوس الأموال، فيما السعودية تفتح سوقها من موقع قوة لا حاجة، لتؤكد أنها تتجه بثقة نحو أن تكون وجهة عالمية للاستثمار المالي، وسوقاً حرة برؤية وطنية عميقة.
نقلا عن الرياض