من الذهب إلى الأرقام: نصف قرن من التحولات المالية

17/08/2025 0
د. خالد بن سعد الحبشان

شهد العالم خلال الخمسين عامًا الماضية تحولات جوهرية في طبيعة المال ووظيفته، تحولات لم تغيّر فقط أسلوب إدارة الاقتصاد، بل أثرت في طريقة تفكير المجتمعات والأفراد في مفهوم الثروة والاستقرار المالي. اللحظة الفاصلة التي انطلقت منها هذه التحولات كانت في أغسطس 1971، عندما أعلنت الولايات المتحدة رسميًا إنهاء ارتباط الدولار بالذهب، لتنتقل من نظام نقدي يستند إلى غطاء مادي ثابت إلى نظام قائم على الثقة والقدرة الاقتصادية للدولة المصدرة للعملة، قبل ذلك التاريخ، كان النظام المالي العالمي، المستند إلى اتفاقية “بريتون وودز” الموقعة عام 1944، يفرض على الدول الاحتفاظ باحتياطيات ذهبية تدعم قيمة عملاتها. هذا الارتباط منح المال استقرارًا نسبيًا، لكنه قيّد قدرة الحكومات على التوسع في الإنفاق أو مواجهة الأزمات عبر السياسات النقدية المرنة. ومع فك هذا الارتباط، انفتح الباب أمام إمكانية إصدار النقود دون الحاجة إلى زيادة مقابلة في الاحتياطي الذهبي، مما وفر مرونة كبيرة لكن حمل معه أيضًا مخاطر جديدة أبرزها التضخم وفقدان جزء من القوة الشرائية للعملة بمرور الوقت.

على مدار العقود التالية، نما القطاع المالي بوتيرة متسارعة، متجاوزًا في حجمه وتأثيره الاقتصاد الحقيقي القائم على الإنتاج والصناعة والزراعة. أصبحت الأسواق المالية بمؤشراتها وأسعار أصولها محور اهتمام المستثمرين وصناع القرار، وبرزت أدوات مالية جديدة معقدة مثل المشتقات والمنتجات الهيكلية وصناديق التحوط، ما أتاح فرصًا كبيرة لتحقيق أرباح، لكنه في الوقت نفسه خلق طبقات من التعقيد والاعتماد المتبادل بين الأسواق في مختلف أنحاء العالم.

هذا التوسع لم يكن دائمًا متزنًا؛ فقد ساهم في زيادة الميل نحو المضاربة قصيرة الأجل، حيث يسعى المستثمرون إلى أرباح سريعة بدلًا من الاستثمار طويل الأجل في مشاريع إنتاجية أو بنية تحتية. ونتيجة لذلك، تعمقت الفجوة بين القيمة السوقية للأصول والقيمة الحقيقية للإنتاج والموارد.

الأزمات المالية الكبرى جاءت لتكشف هشاشة هذا البناء. أزمة الديون في أمريكا اللاتينية خلال الثمانينيات، الأزمة الآسيوية عام 1997، والأزمة المالية العالمية عام 2008، جميعها بيّنت أن النظام المالي العالمي يمكن أن يتأثر بسرعة فائقة بأي خلل في تدفق الائتمان أو اهتزاز الثقة. في 2008، على سبيل المثال، أدى انهيار سوق الرهن العقاري في الولايات المتحدة إلى سلسلة من الانهيارات في بنوك ومؤسسات مالية كبرى، ما دفع الحكومات والبنوك المركزية إلى ضخ تريليونات الدولارات لإنقاذ النظام. ورغم أن هذه التدخلات نجحت في منع انهيار شامل، فإنها أبقت على كثير من مواطن الضعف دون إصلاح جذري.

اليوم، يقف الاقتصاد العالمي أمام مشهد مركّب يجمع بين التحديات والفرص. على صعيد المخاطر، تشير تقديرات مؤسسات دولية إلى أن حجم الديون العالمية، الحكومية والخاصة، تجاوز 300 تريليون دولار، أي أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج الإجمالي العالمي. هذا المستوى من المديونية يفرض أعباءً على الأجيال المقبلة، ويحد من قدرة الدول على مواجهة أزمات مستقبلية. على صعيد الفرص، تتيح التطورات التكنولوجية، من الذكاء الاصطناعي إلى سلاسل الكتل (البلوك تشين)، إمكانيات هائلة لتحسين كفاءة الأسواق وتعزيز الشفافية.

في ظل هذا الواقع، يصبح التحدي الأساسي هو تحقيق توازن مستدام بين القطاع المالي والاقتصاد الحقيقي. هذا يتطلب سياسات تشجع على الاستثمار في الإنتاج والابتكار والتعليم، بدل الاعتماد المفرط على المضاربة ونمو الأصول المالية فقط. فالمجتمعات التي تنجح في ذلك لن تضمن فقط استقرار عملتها وأسواقها، بل ستبني اقتصادًا قادرًا على الصمود أمام الأزمات وتحقيق نمو مستدام للأجيال القادمة.

 

 

خاص_الفابيتا