في خضم الزخم الاقتصادي الذي تشهده المملكة نتيجة برامج الإصلاح والتحول الوطني، شهدت السوق المالية السعودية موجة متسارعة من الاكتتابات العامة، حيث تزايد عدد الشركات التي تطرح أسهمها في السوق الرئيسة وسوق نمو، في بدايات هذه الموجة، كان الهدف الرئيس تعميق السوق، وتنويع الفرص الاستثمارية، وتحويل الشركات العائلية إلى كيانات عامة تخضع للحوكمة والانضباط المالي، وعلى المستوى النظري، بدت الخطوة منسجمة مع أهداف تمكين الاقتصاد الوطني وتعزيز ثقة المستثمرين، لكن تلك الآمال بدأت تتآكل تدريجيًا، مع تكرار نمط أثار قلقًا متزايدًا لدى المستثمرين، لا سيما الأفراد، فقد أصبح من الملاحظ أن معظم الاكتتابات تُدار بطريقة تمنح المؤسسات الاستثمارية الحصة الأكبر، وتترك هامشًا ضيقًا للأفراد، ورغم المبررات التي تُطرح، مثل تحقيق الاستقرار السعري وتفضيل المستثمر المحترف، إلا أن شريحة واسعة من الأفراد باتت تشعر بأن دورها يقتصر على تلقي الأسهم بعد تسعيرها وارتفاعها، دون مشاركة فعلية في عملية التسعير أو فرص عادلة للاستثمار المجدي.
تعتمد أغلب هذه الطروحات على آلية “بناء سجل الأوامر”، والتي تهدف نظريًا إلى تحديد السعر العادل للسهم عبر استقبال عروض المؤسسات وتحديد السعر بناءً على حجم الطلب. غير أن الواقع أظهر انحرافًا عن هذا الهدف، حيث تُستخدم الآلية أحيانًا لرفع السعر إلى مستويات مبالغ فيها، عبر ضخ سيولة مؤقتة تُظهر طلبًا مرتفعًا، وهذه السيولة لا تُدفع فعليًا في مرحلة التسجيل، بل تُحصّل بعد التخصيص، ما يجعلها سيولة “ورقية” تُضخم سجل الأوامر دون التزام مالي حقيقي، نتيجة لذلك، يُثبّت السعر في معظم الاكتتابات عند الحد الأعلى للنطاق السعري، دون أن يعكس بالضرورة القيمة الحقيقية للشركة أو أداءها المالي، فالتسعير لم يعد يستند إلى أسس تحليلية دقيقة، بل إلى ما يمكن أن تدفعه المؤسسات، وبمجرد الإدراج، تبدأ عملية البيع من قبل تلك المؤسسات لجني أرباح سريعة، بينما يُقبل الأفراد على الشراء عند مستويات مرتفعة، متأملين مكاسب آنية، ليكتشفوا لاحقًا أنهم اشتروا عند القمة، بهذا الشكل تفقد السوق توازنها، وتتحول الاكتتابات من أدوات لتعميق السوق وتنمية الاستثمار إلى قنوات لنقل الأرباح من الأفراد إلى المؤسسات، فالأخيرة تحجز السهم بأقل تكلفة، وتخرج سريعًا بمكاسب، دون التزام طويل الأجل أو دعم فعلي للشركة، وما يعمق من هذه الإشكالية أن الجهات التنظيمية، رغم جهودها في تعزيز الشفافية وتطوير السوق، لم تُراجع آلية “بناء سجل الأوامر” بالشكل الكافي.
لقد أثبتت العديد من الطروحات أنها تُستخدم لتحقيق أرباح لحظية من قِبل بعض المؤسسات، وليس لتسعير عادل يعكس الواقع المالي، ويُضاف إلى ذلك استغلال بعض الشركات لهذه الثغرة لتسعير أسهمها بعلاوات إصدار مرتفعة، مستفيدة من رغبة المؤسسات في حجز كميات كبيرة للمضاربة، ما يرفع التقييم السوقي للشركة نظريًا، دون أساس حقيقي في البيانات المالية أو الأداء التشغيلي، وما أن تُدرج الشركة حتى تتضح الفجوة بين التقييم الورقي والواقع، وتُلقى على السوق مسؤولية “إعادة التقييم”، وغالبًا ما يدفع الثمن المستثمر الفرد، الذي لا يمتلك أدوات التحليل الكافية، ومع تكرار هذا النمط، تراجعت ثقة الأفراد في جدوى المشاركة بالاكتتابات، إذ بات الربح الحقيقي حكرًا على من يشارك في التسعير المبكر، بينما يُترك الفرد لتحمل المخاطرة في السوق المفتوح بعد انسحاب السيولة المؤسسية، يزداد المشهد تعقيدًا مع التوسع الكبير والمتسارع في عدد الطروحات، إذ يكاد الفاصل الزمني بينها يختفي، ما يشتت قرارات المستثمرين ويفتّت محافظهم، وفي بعض الحالات، تدخل شركات ناشئة أو ضعيفة الأداء إلى السوق، ما يثير تساؤلات حول دقة معايير الإدراج وجدوى بعض الطروحات.
ورغم أن هيئة السوق المالية قدمت نموذجًا متقدمًا من حيث الشفافية وسرعة الإجراءات، إلا أن تسارع النمو وتعدد الطروحات يستدعي وقفة مراجعة تعيد النظر في معايير التوقيت والملاءمة، لضمان ألا يتحول السوق إلى ساحة مضاربات قصيرة الأجل تنفّر المستثمر طويل الأجل. إن استدامة السوق المالية السعودية كوجهة موثوقة وجاذبة للاستثمار تتطلب معالجة جذرية لهذا الخلل، تبدأ بإعادة النظر في آلية التسعير، وتوزيع التخصيص بطريقة أكثر عدالة، وضمان أن تعكس التقييمات مؤشرات مالية حقيقية، لا رغبات وقتية لتحقيق أرباح سريعة، فالسوق القوي لا يُبنى على الاندفاعات، بل على الشفافية والثقة والاستقرار طويل الأمد، والمطلوب اليوم ليس وقف الاكتتابات، بل إدارتها بحكمة، وتعزيز ثقافة الاستثمار الواعي، لتظل الاكتتابات وسيلة حقيقية للنمو، لا فخًا مكررًا يخسر فيه الصغار ليربح فيه الكبار.
نقلا عن الرياض