في سبعينيات القرن الماضي، كانت المنتجات اليابانية تعاني من سمعة "الرديء والرخيص"، تماماً كما بدأت الصين قبل ثلاثة عقود. لكن اليابان تحولت لتصبح رائدة في الجودة والابتكار، وهذه قصة تتكرر اليوم مع الصين ولكن على نطاق أوسع وأعمق. فكيف تمكنت الصين من التحول من مصنع للسلع الرخيصة إلى قوة تصنيعية وعلمية يصعب الاستغناء عنها؟
· من اليابان إلى الصين: دروس التحول الصناعي
في الخمسينيات والستينيات، كانت العلامة "صنع في اليابان" مرادفة للجودة المتدنية. السيارات والالكترونيات اليابانية كانت تعتبر نسخاً رخيصة من المنتجات الأمريكية والأوروبية. لكن اليابان اتبعت استراتيجية ذكية: الاستثمار في التعليم والبحث العلمي وتبني مبادئ الجودة الشاملة والتركيز على القيمة المضافة وبحلول الثمانينيات، أصبحت اليابان رائدة في السيارات والالكترونيات الدقيقة. واليوم، تقوم الصين بنفس التحول ولكن بوتيرة أسرع وبتأثير أكبر على الاقتصاد العالمي.
· التحول الاستراتيجي الصيني: من القمصان إلى الرقائق
بدأت الصين كاليابان بالصناعات البسيطة فاصبحت مركز لصناعة الملابس ثم انتقلت بعد ذلك واصبحت عاصمة الألعاب والمنتجات البلاستيكية ولكن منذ العام 2015، بدأت الصين تحولاً جذرياً نحو ثلاث صناعات رئيسية وهي:
1. صناعة السيارات الكهربائية: قلب التحول الأخضر في العالم:
ان الصين تلعب دوراً مركزياً في صناعة السيارات الكهربائية العالمية ففي عام 2024، كانت الصين مسؤولة عن 65% من مبيعات السيارات الكهربائية على مستوى العالم، مما يؤكد هيمنتها الواضحة في هذا المجال إضافة إلى ذلك، بلغ عدد تسجيلات السيارات الكهربائية الجديدة في الصين 8.1 مليون سيارة في عام 2023
2. صناعة الطاقة المتجددة: هيمنة شاملة في الألواح الشمسية والبطاريات:
على صعيد الطاقة المتجددة، أصبحت الصين اليوم المزود العالمي الأول لمكونات الطاقة النظيفة. وبحسب الوكالة الدولية للطاقة، تهيمن الصين على أكثر من 80% من إنتاج الألواح الشمسية عالميًا. فالصين لا تنتج الألواح فقط، بل تسيطر أيضًا على سلاسل التوريد الخاصة بالمواد الأساسية، مثل: 79% من إنتاج "البوليسيليكون" المستخدم في الألواح الشمسية و85% من تصنيع خلايا الطاقة الشمسية و70% من تصنيع وحدات الألواح النهائية وكذلك في قطاع البطاريات، تنتج الشركات الصينية مثل "كاتل" و "بي واي دي" أكثر من 50% من بطاريات "الليثيوم أيون" في العالم، وهي البطاريات الأساسية التي تعتمد عليها السيارات الكهربائية وأنظمة تخزين الطاقة المتجددة.
الصين لم تكتفِ بالتصنيع فحسب، بل استثمرت أيضاً بكثافة في البحث والتطوير، مما مكّنها من خفض تكلفة إنتاج الطاقة الشمسية بأكثر من 80% خلال العقد الأخير، بحسب الوكالة الدولية للطاقة. كل هذه العوامل جعلت من الصين اللاعب الحاسم الذي لا يمكن استبداله سريعاً في قطاع الطاقة النظيفة.
3. صناعة الالكترونيات المتقدمة: قلب التقنية العالمية:
في مجال الإلكترونيات المتقدمة، تطورت الصين من كونها مجرد مصنّع للمنتجات البسيطة إلى لاعب رئيسي في إنتاج الأجهزة الذكية الدقيقة وتشير الإحصائات بأن الصين تصنع 70% من الهواتف الذكية في العالم عبر شركات مثل"فوكس كون" و "بي واي دي الكترونكس" وكذلك تنتج حوالي 50% من أجهزة الحواسيب الشخصية بما في ذلك أجهزة "لينوفوا" و"اسيوس" و"خوا ويي" وغيرها وكذلك تهيمن على أكثر من 60% من إنتاج الشاشات المسطحة.
ومن المثير للإهتمام بأن الصين استثمرت بشكل ضخم في تطوير صناعات متقدمة مثل: أشباه الموصلات (رغم القيود الأميركية، استثمرت أكثر من 150 مليار دولار لدعم الاكتفاء الذاتي). وفي مجال الروبوتات الصناعية (الصين هي السوق الأسرع نمواً للروبوتات عالمياً). وتقنيات الذكاء الاصطناعي، حيث باتت الصين تنافس الولايات المتحدة في تطوير التطبيقات الذكية.
ولعل أبرز مظاهر تقدمها في الإلكترونيات يتمثل في منطقة "شين جين"، التي تحولت إلى "وادي السيليكون الصيني"، حيث تتجمع مئات الشركات الناشئة وشركات التكنولوجيا العملاقة، وتنتج تقنيات متقدمة بسرعة تفوق معظم المناطق الأخرى في العالم.
· لماذا فشلت البدائل في منافسة الصين؟
1. تكامل غير مسبوق في سلاسل التوريد:
في مدينة "شين جين" وحدها، توفر "منظومة صناعية مكتملة" حيث يتم تصنيع وتجميع مكونات الهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية في محيط لا يتجاوز 50-80 كيلومترًا.. بينما في الهند أو فيتنام، قد تحتاج لاستيراد المكونات من الخارج.
2. بنية تحتية عملاقة:
الصين تمتلك 7 من أصل أكبر 10 موانئ حاويات في العالم وطول شبكة القطارات فائقة السرعة في الصين تجاوز 40,000 كيلومتر في نهاية 2024، وهي الأكبر عالميًا تنقل البضائع والعمال بسرعة قياسية.
3. قوة عاملة لا مثيل لها:
ان الصين تخرّج سنويًا نحو 7 إلى 8 ملايين طالب في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات حسب تقرير البنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ويبلغ عدد العاملين في القطاع الصناعي الصيني حوالي 290 إلى 300 مليون عامل ماهر مدرب.
ان الفرق بين الهند أو والصين لا يكمن فقط في تكاليف العمالة أو البنية التحتية، بل في تكامل المنظومة الصناعية بأكملها (من المورد إلى المصنع إلى الميناء إلى السوق المحلي والعالمي).
خاص_الفابيتا