مقدمة:
نشرت سابقاً مقالاً بعنوان "قراءة استراتيجية في الحروب التجارية للولايات المتحدة الأمريكية: تاريخ ودروس مستفادة". وتحدثت في المقال عن سياسة تأسست منذ عشرات السنوات لغرض تحقيق الأهداف الأمريكية من الحروب التجارية مع الدول والتكتلات الاقتصادية. واستمرار الولايات المتحدة في اتباع وتطوير هذه السياسة يعني نجاحها على المدى المتوسط والطويل في تحقيق عدد من المصالح الاستراتيجية خاصة في تنمية وحماية الصناعة المحلية. فمن عهد ريغن، وبوش الأب، وحروب التجارة مع اوروبا واليابان في الثمانينات والتسعينيات، مروراً بعهد بوش الابن في بداية الالفية الثانية، ثم الى ترامب ثم بايدن ثم ترمب مرة اخرى، تتطور سياسات الحروب التجارية الامريكية في كل مرة لتخرج بمعايير ومستهدفات اكثر صرامة.
وعطفاً على ما ورد في مقالي السابق من تفاصيل، وردتني استفسارات حول طريقة حساب مستهدفات الولايات المتحدة الامريكية من الحروب التجارية مع الدول، ومن المسؤول عن ذلك، وكيف ترتبط السياستين النقدية والتجارية بالحروب التجارية الامريكية، وهو ما نحاول تفسيره في هذا المقال.
أ- المعايير:
حتى تضع الولايات المتحدة استراتيجيتها في الحرب التجارية ضد دولة او تكتل اقتصادي، فمن البديهي بأنها تعد الدراسات ثم الخطط المناسبة. ومما وقفت عليه من المعايير يتلخص في تحقيق توقيع اتفاقية الزامية بين الولايات المتحدة الامريكية والدولة النظيرة بهدف تعويض العجز في الميزان التجاري مع الدولة النظيرة، أو تلبية طلب أو طلبات واضحة جداً. ومن خلال قراءتي، تقوم الولايات المتحدة الامريكية ببناء مستهدفات استراتيجية حربها التجارية آخذة في الاعتبار المعايير التالية (ليست حصرية):
١- تحديد الخصم:
تحدد الولايات المتحدة الدولة الخصم، والتي تستفيد من سوق الولايات المتحدة، بشكل مباشر أو غير مباشرة، آخذة في الاعتبار حجم العجز التجاري الكبير مع الدولة الخصم.
٢-تحديد الاهداف التعويضية:
في حالة أن العجز يمثل حجر الزاوية للاستراتيجية، يتم تحديد أهداف تعويضية لتعويض هذا العجز، وذلك من خلال الزام الدولة النظيرة بشراء منتجات وخدمات امريكية بقيمة محددة لصالح المشتريات الحكومية في الدولة النظيرة لفترة محددة.
قد يتم احتساب ذلك بحساب متوسط حجم الصادرات الامريكية الى الدولة النظيرة، مع اضافة نسبة تعويضية لتقليص العجز في الميزان التجاري بين البلدين.
الصين:
لنأخذ عام ٢٠١٨م كمثال حيث بلغ العجز بين البلدين لصالح الصين مبلغ وقدره ٤١٩,٢ مليار دولار امريكي. تم تحديد ٤٨٪ من العجز لتعويضه خلال عامين بالتزامات تصممها الولايات المتحدة الامريكية وتفرضها على الصين بمبلغ ٢٠٠ مليار دولار كما اوضحت في مقالي السابق، مع التزام الصين بتحقيق المستهدفات.
اليابان:
أما مع اليابان، ففي ثمانينيات القرن الماضي، فقد بلغ العجز ٥٦ مليار دولار لصالح اليابان بسبب السيارات والاليكترونيات مما اوقد فتيل الحرب التجارية وحتم آخيراً على اليابان التعهد بتخفيض صادراتها من السيارات بواقع ١,٦٨ مليون سيارة سنوياً، وزيادة استثماراتها في قطاع السيارات في الولايات المتحدة الامريكية.
المكسيك:
أما مع المكسيك والتي بلغ العجز التجاري معها ٩٢,٤ مليار دولار في ٢٠١٨م، فقد تم رفع قاعدة القيمة المضافة على السيارات المكسيكية التي تستهدف التصدير للسوق الامريكي من ٦٢,٥٪ إلى ٧٥٪ بالاضافة الى تحديد الحد الادنى للاجور في مصانع السيارات المكسيكية ليصبح ١٦ دولار في الساعة، وذلك للمصانع التي تستهدف التصدير للسوق الامريكية.
كوريا الجنوبية:
وحيث بلغ العجز مع كوريا الجنوبية ٢٧,٦ مليار دولار في ٢٠١٨م، فقد تم اتباع نهج يفضي لالتزام كوريا الجنوبية بتقديم تسهيلات لنفاذ السيارات الامريكية من ٢٥ الف سيارة الى ٥٠ الف سيارة سنويا، مع تمديد الرسوم الجمركية على سيارات الشحن الكورية لمدة ٢٠ عام اضافية. تستهدف الولايات المتحدة الامريكية زيادة حصتها السوقية في كوريا الجنوبية من خلال اتفاقية التجارة الحرة التي تم توقيعها بين الطرفين.
٢- دراسة اقتصاد الدولة النظيرة:
قد تقوم الولايات المتحدة بدراسة القوة الشرائية للدولة النظيرة، وحجم الاستهلاك المحلي، ومقدرة الدولة على الاستيراد لتحقيق المستهدفات، والقدرة اللوجستية للدولة النظيرة للاستيراد. فعلى سبيل المثال، استوردت الصين ٦٠٪ من احتياجاتها من فول الصويا من الولايات المتحدة الامريكية قبل الحرب التجارية. وبعد الحرب التجارية، حددت الولايات المتحدة نسبة النمو السنوي المستهدف تصديره للصين من هذه السلعة بمبلغ من ١٠ الى ١٥ مليار دولار امريكي سنوياً. أما بالنسبة للغاز المسال، فقد حددت الولايات المتحدة مبلغ الزيادة المطلوبة لتلتزم الصين بشرائها من الولايات المتحدة الامريكية وهي بمبلغ ٢٠ مليار دولار امريكي.
٣- تحليل التنافسية:
قد تحلل الولايات المتحدة القطاعات المستهدفة في الدولة النظيرة بناء على تحليل تنافسية الدولتين في هذه القطاعات. ففي حالة الصين، تم توزيع المبلغ المستهدف، أي ٢٠٠ مليار دولار امريكي، على: (بالمليار دولار امريكي):
٤٠ القطاع الزراعي
٥٠ قطاع الطاقة والغاز
٧٥ الصناعة
٣٥ الخدمات
في مقالي السابق، ذكرت بأن الولايات المتحدة الأمريكية حددت مبلغ ٢٠٠ مليار دولار على مدى عامين تلتزم الصين خلال هذه الفترة بشراء سلع وخدمات امريكية. كما ذكرت أن المستهدفات تشمل منتجات القطاع الزراعي الأمريكي، ومنتجات قطاع النفط والغاز، والخدمات المالية.
٤- تحليل العائد على الاستراتيجية:
قد تقوم الولايات المتحدة بتحديد العائد الاقتصادي جراء الحرب التجارية التي يتم التخطيط لها مثل الأثر على جذب الاستثمارات من الدولة النظيرة، والتنمية الصناعية، وزيادة صادرات الولايات المتحدة للدولة النظيرة، ونمو الوظائف وغيرها من المؤشرات. كما قد يؤخذ في الاعتبار الأثر غير المباشر جراء اعادة تغيير حركة سلاسل الامداد.
٥- الضغط في اتجاه واحد ومحدد:
وبحسب قراءتي، يلي ذلك الضغط السياسي والدوبلماسي للدفع بالدولة النظيرة للاستجابة لقائمة المطالب الامريكية واللجوء للمفاوضات.
٦- تنفيذ صارم:
من الواضح للقاريء بأن الولايات المتحدة تضع جداول تنفيذ زمنية لكل مطلب وفق مخرجات اجتماعات الدولتين.
٧- المتابعة والاجراءات اللاحقة:
ومن خلال قراءتي، فقد تقوم الولايات المتحدة بمتابعة تنفيذ جداول الالتزامات وفق تقارير ربع سنوية ترسلها الدولة النظيرة للولايات المتحدة الامريكية. وكما ذكرت في مقالي السابق، افضت متابعات الولايات المتحدة الامريكية الى ان الصين نفذت حوالي ٦٠٪ من التزامها خلال عامين من اتفاقية المرحلة الاولى مع الولايات المتحدة الامريكية، مما اعاد الحرب التجارية بين الطرفين للواجهة مرة اخرى. ونظراً لتخلف الصين عن التزاماتها بموجب اتفاقية المرحلة الاولى مع الولايات المتحدة الامريكية، فرضت الاخيرة رسوماً جمركية على ٣٦٠ مليار دولار من واردات الولايات المتحدة من الصين.
ونشهد اليوم قيام الولايات المتحدة الأمريكية برفع الرسوم الجمركية على وارداتها من الصين بنسبة ١٠٪، و٢٥٪ على كلٍ من كندا والمكسيك، إلا أنه تم تعليق التطبيق على كندا والمكسيك لمدة شهر. ومن الواضح بأنها فترة قد تخصص لمفاوضات بين الاطراف للوصول إلى اتفاق، او مهلة لمنح كندا والمكسيك فرصة للاستجابة للطلبات الامريكية. وكما شهدنا استجابة عدد من الدول للاجراءات الامريكية خلال الايام الماضية.
ب- من يقود صناعة وتنفيذ ومتابعة هذه السياسات:
بحسب قراءتي، يتم تصميم ومتابعة تنفيذ هذه السياسات من قبل مجموعة اجهزة حكومية امريكية، إلا أن الجهاز الرئيسي في التخطيط ومتابعة التنفيذ هو المكتب التنفيذي لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية عبر مكتب الممثل التجاري للولايات المتحدة الأمريكية. هذا المكتب هو الجهاز الرئيسي المسؤول عن وضع الاستراتيجيات وتحديد مبلغ التعويضات والاستثمارات، ومفاوضة الاتفاقيات التجارية الدولية (السياسات التجارية). وهو المعني بمتابعة تنفيذ الدولة النظيرة لالتزاماتها، وهو من يرفع للرئيس مباشرة بتقارير عن حالة الميزان التجاري والسياسات التجارية. ولن يكون من باب المصادفة أن نقول بأن هذا المكتب هو المسؤول عن قانون الامن الوطني الامريكي، والذي تنبثق عنه التحقيقات التجارية، والاجراءات الجمركية والغير جمركية التي تطبقها الولايات المتحدة الامريكية. ويكون مسؤول هذا المكتب، بالتضامن مع وزير الدفاع، مسؤولون عن اتخاذ التوصيات والرفع بها للرئيس الأمريكي للاعتماد والتنفيذ مباشرة. وهذا المكتب هو المسؤول عن فرض وتنفيذ العقوبات على الدول التي تخرق التزاماتها التجارية مع الولايات المتحدة الامريكية مثل الصين. ونحن هنا نذكر القاريء بأننا نتحدث عن الحروب التجارية وليس العسكرية.
وقد تتعاون بقية الاجهزة الحكومية مثل وزارة التجارة الامريكية، ووزارة الخزانة، ولجنة التجارة الدولية، ومجلس الأمن القومي لتحقيق المستهدفات من الحرب التجارية. ولكل من هذه الاجهزة ادوار محددة ومشاركة في صياغة السياسات التجارية ومتابعتها وتنفيذها.
ج- علاقة السياسة المالية بالحروب التجارية الامريكية:
من البديهي بأن دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية قد اخذت في الحسبان اثر حروبها التجارية، واستخدامها لفرض او رفع التعرفة الجمركية على التضخم. واذا ما نظرنا إلى توقيت رفع التعرفة الجمركية للولايات المتحدة الامريكية سواء في ٢٠١٩م، أو ٢٠٢٠م او ٢٠٢١م، أو ٢٠٢٤م، أو حتى ما يتم الحديث عن تطبيقه في ٢٠٢٥م، فإنها ليست بمصادفة أن تتسق مع نسب الفائدة السائدة بتحكم من الفيدرالي الأمريكي. أي أننا نجد ان تكلفة المنتج المستورد قد ارتفعت، بينما القدرة على الاقتراض قد انخفضت، مما يصنع توازناً يميل لصالح المنتج الأمريكي. فإذا ما قام الفيدرالي بخفض نسب الفائدة قبل قيام الادارة الامريكية برفع نسب التعرفة الجمركية فإن الفيدرالي يتيح مساحة أكبر للادارة الاقتصادية للتنفيذ مع تحييد أكبر قدر من الآثار السلبية، ويسمح للاقتصاد بامتصاص صدمات ارتفاع التعرفة الجمركية. وقد قام الفيدرالي بتعديل السياسة النقدية الامريكية وذلك بخفض نسبة الفائدة عدة مرات في عام ٢٠١٩م، بالتزامن مع قيام الرئيس ترمب برفع التعرفة الجمركية، وذلك بهدف مواجهة الأثر التضخمي. ويزيد الموقف دعماً للاقتصاد الامريكي عند قيام الدولة النظيرة بامتصاص كل او جزء من الزيادة في التعرفة الجمركية الاضافية او الجديدة (الابقاء او الخفض على سعر التصدير من الدولة النظيرة) مما يضغط على اقتصاد الدولة النظيرة ويخفض من تنافسية صادراتها. كما يقدم الفيدرالي عبر السياسة النقدية خدمة للقطاع الصناعي - السياسة الصناعية - حيث يمنحه قروضاً بفائدة أقل يستطيع معها التوسع لتلبية الطلب الذي خلقته السياسة التجارية. وبطبيعة الحال، فإن هذه السياسة النقدية تجعل رفع التعرفة الجمركية أقل تأثيراً على المستهلك المحلي والذي يحصل على دعم من السياسة النقدية اذا ما ابتاع منتج محلي. ومع سياسات مترابطة من هذا النوع، يتم الدفع بالموردين المحللين للتوجه نحو شراء المنتجات الامريكية، بدلاً عن الاستيراد من الدولة التي تم رفع الرسم الجمركي على صادراتها للولايات المتحدة الأمريكية.
ومن هنا، فإذا كانت التعرفة الجمركية الجديدة ترفع التضخم بنسبة ١-٢٪، فإن خفض الفائدة بنسبة ٠,٥ إلى ١٪ قد يوازن الأثر. وبالتالي، ومع ثبات أو التوجه لمزيد من خفض نسب الفائدة حالياً، فإن الاقتصاد الامريكي قد يكون مستعداً لاستيعاب رفع الرسوم الجمركية.
خلاصه:
إن معايير تحقيق مستهدفات الحروب التجارية للولايات المتحدة الأمريكية، ومتابعتها وتنفيذها، والجهات القائمة على رسمها، ثم ربط ذلك بالسياسات المؤثرة على الاقتصاد ومنها السياسات المالية هي لوحة اقتصادية تستحق التوقف عندها للتأمل. والدروس المستفادة مما نشهده اليوم من تحولات كبيرة في المشهد التجاري العالمي يجنبنا عناء التجربة، ويمنحنا خلاصتها. ولا نستطيع الجزم بمآلات هذه التوجهات الاقتصادية، ويبقى المجال مفتوحاً للمزيد من الاسئلة.
إن أصبت فمن الله، وإن اخطأت فمن نفسي
مقال رائع جدا و معلومات قيمة و جهد تشكر عليه ...
اعتقد على المدى البعيد الولايات الامريكية سوف تخسر الكثير من حروبها التجارية لان نظرة الدول الأخرى تغيرت وتطورت وليس من الأفضل الاستمرار على هذا النهج