في هذا المقال سوف اُسلط الضوء بشكل مُقتضب على ثلاثة عناصر رئيسية مرتبطة بالاستدامة المالية وهي مفهوم الاستدامة المالية، ومؤشراتها، وممكناتها. حيث دائماً ما ارتبط مفهوم الاستدامة المالية بالدول والمنظمات غير الهادفة للربح، وذلك لكون هذه الكيانات تسعى إلى بلوغ الاستدامة بمفهومها العام والتي تعني قدرة الدولة أو المنظمة غير الهادفة للربح على تحقيق رؤيتها وأهدافها ومهامها مع مرور الوقت، وبالطبع سوف يكون ذلك مستحيلاً في ظل غياب الاستدامة المالية، ومن هنا جاء الاهتمام بهذا المصطلح والذي يشير إلى مدى تحقق الملاءة المالية Solvency وتوفر السيولة Liquidity لهذه الكيانات من أجل الوفاء بالتزاماتها المالية في الأجل القصير، والمتوسط، والطويل. فلم تكن غايتها الرئيسية تعظيم فوائضها(أرباحها) المالية وإنما تقديم خدمات للمجتمع. فالدولة تسعى بالدرجة الأولى إلى تحقيق رفاهية المواطن وليس تعظيم فوائضها المالية وتوزيعها على الحكومة، كذلك الحال بالنسبة للمنظمات غير الهادفة للربح فغايتها الرئيسية تقديم خدمات لأفراد المجتمع وليس تعظيم أرباحها وتوزيعها على أصحاب المصلحة. وبالتالي تعتبر الفوائض (الأرباح) المالية بمثابة وسيلة وليس غاية لهذه الكيانات.
وتجدر الإشارة إلى أنه في الغالب يتم التعامل مع مفهوم استدامة الشركات (الأعمال) كمرادف لمفهوم الاستدامة المالية وهذا بالطبع فهم غير دقيق، فاستدامة الشركات تعني استمرارية المنظمة سواء هادفة أو غير هادفة للربح في المحافظة على مواردها وأصولها في الأجل القصير، أو المتوسط، أو الطويل، وذلك بعد أخذ بعين الاعتبار الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والبيئة. وبالتالي يتضح من هذا المفهوم أن بقاء استمرارية المنظمات لم يعد مرتبطاً بأدائها المالي ومدى تحقيقها للأرباح، وإنما أصبحت بحاجة إلى إدخال مؤشرات أخرى غير مادية مثل مؤشرات اجتماعية واقتصادية وبيئة. وعند النظر إلى مفهوم الاستدامة المالية بشكل عام نرى انه يُقصد به قدرة الدولة أو المنظمة على الوفاء بالتزاماتها المالية في الأجل القصير، والمتوسط، والطويل بهدف تحقيق رؤيتها.
ويتبادر للكثيرين السؤال التالي:
هل مفهوم الاستدامة المالية ينحصر بالضرورة في أن الإيرادات تساوي المصروفات؟
إذا افترضنا مجازاً أن الإجابة على هذا السؤال هي نعم، وحققت هذه الكيانات استدامتها المالية في العام 2019، وبعد ذلك جاء العام 2020 والذي يمثل العام الذي حدثت فيه أزمة كورونا والتي كان لها بالغ الأثر على مستوى الاقتصاد الكلي والجزئي. فعند افتراضنا أن مصطلح الاستدامة المالية يعني أن الإيرادات تساوي المصروفات فإنه في عام 2020 سوف تواجه هذه الكيانات مشكلة الإعسار المالي Insolvency (إفلاس الدولة)، وذلك لعدم قدرة الإيرادات على تغطية الالتزامات المالية في هذا العام. وعلية فإنه من الضروري لتحقيق الاستدامة المالية أن يكون لهذه الكيانات القدرة على خلق فوائض (أرباح) مالية تراكمية تساعدها في تخطي العقبات المالية غير المتوقعة التي من المحتمل أن تواجهها في المستقبل، بالإضافة الى التوسع في نشاطاتها المستقبلية.
فعند اشتداد الازمات الاقتصادية والسياسية، تنخفض إيرادات هذه الكيانات مما يهدد قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية، وبالتالي تلجأ لوسائل تستطيع من خلالها تعزيز استدامتها المالية بالشكل الذي يكفل لها تحقيق رؤيتها وأهدافها ومهامها. حيث أخذت الاستدامة المالية حيزاً كبيراً في الفكر الاقتصادي على المستوى الكلي، على سبيل المثال أشارت نظرية المكافئ الريكاردي Ricardian Equivalence Theorem أن تمويل العجز في المالية العامة عن طريق اللجوء إلى الدين العام سوف يؤدي إلى زيادة الضرائب مستقبلاً، بالقيمة الحالية للعجز الحالي. إذ اعتمدت هذه النظرية على رشادة الأفراد (Rationality)، والتي تشير إلى أن لجوء الدولة للدين في الفترة الحالية (الفترة الأولى) لتغطية عجز المالية العامة سوف يؤدي إلى زيادة الضرائب مستقبلاً (الفترة الثانية)، وحيث أن الأفراد توقعوا ضرائب أعلى في المستقبل (الفترة الثانية) لذا ادخروا أكثر في الفترة الأولى لكي يكونوا قادرين على السداد في الفترة الثانية. وبالتالي وفقاً لهذه النظرية فإن لجوء الدولة للدين العام أو الضرائب لتمويل عجزها المالي سوف يؤديان إلى نفس النتيجة. وبمعنى أخر فإن عجز الموازنة الحالي سوف يؤدي إلى زيادة الادخار الخاص؛ وبالتالي لن يتغير الادخار الوطني، ولن تتأثر معدلات الفائدة، ولا التوازن بين الادخار والاستثمار. لذا فان إحلال العجز في الموازنة بالدين ما هو إلا ترحيل توقيت فرض الضرائب، لذا فأثريهما متكافئ على الاقتصاد.
كذلك افترضت نظرية عدم التمويل البونزي NPG رشادة الدولة عند اقتراضها لتمويل عجزها المالي، وبالتالي رأت هذه النظرية ألا يتبع سلوك الدولة السلوك البونزي، حيث يشير السلوك البونزي إلى الاقتراض بصفة مستمرة لسداد مديونيات قديمة، مما يجعل الدين يؤول إلى مالا نهاية. ووفقاً لهذه النظرية فإن الدين العام يجب أن يؤول في المستقبل إلى الصفر، وبالتالي لن تدخل الدولة في حلقة مفرغه من الديون كما هو الحال مع بونزي.
أيضاً افترض منهج القيد الزمني للموازنة العامة (IBC) تشابه سلوك الدولة مع سلوك الأفراد، والذي يشير إلى أن يكون الانفاق في حدود الدخل، وبالتالي يجب على الدولة تعظيم منفعتها في حدود دخلها لتحقيق استدامتها المالية.
وبجانب ما استعرضه الفكر الاقتصادي من نظريات تناقش موضوع الاستدامة المالية، هناك عدد من المؤشرات التي يمكن تبنيها لتقييم الاستدامة المالية على مستوى الاقتصاد الكلي ومن أبرزها:
نسبة الدين العام إلى إجمالي الناتج المحلي، حيث أقر المجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في دورته السادسة والعشرين (أبوظبي، ديسمبر 2005) : ألا تزيد نسبة الدين العام على الحكومة العامة عن 60% من إجمالي الناتج المحلي.
مؤشر الفجوة الضريبية: والذي يمثل الفرق بين الإيرادات الضريبية المحتملة من الأنشطة الاقتصادية والايرادات الضريبية الفعلية، فإذا كانت الفجوة كبيرة وتتزايد بمعدلات مضطردة لصالح الإيرادات المحتملة، فمعنى ذلك أن هناك حاجة ماسة للبحث عن مصادر تمويلية أخرى.
ولم يولي الفكر الاقتصادي على مستوى الاقتصاد الجزئي ذات الاهتمام الذي أولاه للاستدامة المالية على مستوى الاقتصاد الكلي، ولكن يمكن الاستعانة ببعض المؤشرات المالية التي من خلالها يمكن تقييم الاستدامة المالية في المنظمات غير الهادفة للربح، ومن أبرز هذه المؤشرات:
الربحية: يطمح القطاع غير الهادف للربح بجميع اشكاله إلى تحقيق حد أدنى من الأرباح تمكنه من الاستمرار في تنفيذ مهامه الحالية والتوسع في مهامه المستقبلية، بالإضافة الى قدرته على مواجهة أي تحديات مادية في المستقبل. وبالتالي يقع على عاتق الإدارة تحديد الهامش الربحي الذي يحقق لها أهدافها وفقاً لرؤيتها المستقبلية وليس بهدف تعظيم أرباحها كما هو الحال في القطاع الربحي.
السيولة: حيث تمثل قدرة المنظمة على الوفاء بالتزاماتها (فواتير، أجور، ... الخ) في الأجل القصير. إذ انه في حالة عدم توفر السيولة الكافية لتغطية التزاماتها في الأجل القصير تلجأ هذه المنظمات إلى إيقاف بعض من برامجها الرئيسية مما يُعيق تحقيقها لأهدافها المرجوة.
الملاءة المالية: تمثل مدى قدرة المنظمة غير الهادفة للربح في الاستمرار والتوسع في تقديم خدماتها في الأجل الطويل، وبمعنى أخر تعني قدرة المنظمة على الوفاء بالتزاماتها في الأجل الطويل.
كفاءة الإدارة: وتمثل قدرة إدارة المنظمة على تقديم أقصى خدمة ممكنة بأقل قدر من الموارد البشرية والمادية والمالية.
فاعلية الإدارة: وتمثل قدرة المنظمة على إدارة مواردها وبرامجها بالشكل الذي يضمن تحقيق أهدافها.
ويمكن تبني تحليل SWOT للتقييم المبدئي للاستدامة المالية في المنظمات غير الهادفة للربح وبالأخص في حالة عدم توفر البيانات الثانوية. إذ يعتمد هذا التحليل على تحليل نقاط الضعف، والقوة، والفرص، والتهديدات التي قد تواجه المنظمة في المستقبل. حيث يتم تقييم الاستدامة المالية من خلال التركيز على أربعة عناصر أساسية:
الممارسات المالية: والتي تمثل جانب المسئولية الملقاة على عاتق المنظمة في إدارتها للممارسات المالية.
تنمية الموارد المالية: تمثل جانب فاعلية المنظمة في حصولها على مواردها المالية.
التخطيط الاستراتيجي: يمثل مصداقية المنظمة تجاه الداعمين لها.
القدرة على الابتكار: يمثل قدرة المنظمة على إيجاد نوع من الابتكارات تساعدها في خلق فرص تساهم في سرعة استجابة المنظمة للتغيرات الداخلية والخارجية.
أيضاً يمكن الاستعانة بنموذج TWOS والذي يعتبر جزء من طريقة SWOT وذلك لما يتميز به من ديناميكية في التحليل مقارنة بطريقة SWOT الساكنة، حيث يظهر كمصفوفة مما يتيح لنا عند التحليل عمل "مقارنات" و"تقاطعات" بين نقاط القوة، ونقاط الضعف، والتهديدات، والفرص. فمن خلال هذه الطريقة نحاول الإجابة على التساؤلات التالية:
مدى وجود نقاط قوة تساعدنا على استغلال الفرص المتاحة لتحقيق الاستدامة المالية للمنظمة.
مدى وجود نقاط قوة تمكن المنظمة من تقليل أو إزالة التهديدات التي تواجهها في سبيل تحقيق استدامتها المالية.
مدى وجود نقاط ضعف تؤثر سلباً من الاستفادة من الفرص المتاحة للمنظمة في تحقيق استدامتها المالية.
مدى وجود نقاط ضعف تؤدي إلى زيادة التهديدات لدى المنظمة بالشكل الذي يُعيقها من تحقيق استدامتها المالية.
ويكاد يكون هناك توافق شبه تام بين الاقتصاد الكلي والجزئي فيما يتعلق بممكنات الاستدامة المالية، حيث يمكن تعزيز الاستدامة المالية على المستوى الكلي أو الجزئي من خلال تبني بعض الممكنات، ومن أبرزها:
كفاءة الانفاق: والتي تمثل الاستغلال الأمثل للموارد المالية، بالشكل الذي يضمن تعظيم المخرجات (سلع وخدمات) بأقل تكاليف (مدخلات)، وهذا بالطبع مرتبط بكفاءة إدارة الانفاق وفاعليتها.
توسيع نطاق الشراكات: الدخول في شراكات جديده أو تعزيز شراكات قائمة يخلق فوائد مادية (خلق روافد مالية جديدة، تطوير برامج مالية تعزز استقطاب المانحين)، وفوائد غير مادية (طرح أفكار جديدة وتطبيقها).
تنويع مصادر الدخل: تعتبر التبرعات، والإعانات، والاستثمارات الذاتية، والوقف، وتقديم خدمات برسوم رمزية و(الضرائب على مستوى الاقتصاد الكلي) من اشكال تنويع مصادر الدخل، والتي تضمن زيادة مستوى الاستقرار المالي لدى هذه الكيانات وبالتالي تحقيق استدامتها المالية.
التخطيط المالي: يُمكن التخطيط المالي الجهات الحكومية والمنظمات غير الهادفة للربح من إعداد خططها المالية المستقبلية بفاعلية، فهو عملية مستمرة يوضح من خلالها مقدار الأموال المطلوبة وأوجه انفاقها.
المقالة نشرت في النشرة الفصلية لجمعية الاقتصاد السعودية عدد ديسمبر 2024