قبل نحو أسبوع استفاق العالم على زلزال اطاح بأسواق المال في العالم، حيث سقط سوق نيكاي الياباني بنسبة تعد من الأعلى تاريخيا بنحو 12 في المائة، نتيجة لتغيير مفاجئ بسياسات البنك المركزي الياباني بالعودة لرفع أسعار الفائدة ولم تختلف الأسواق الأضخم عالميا في نيويورك، حيث هبطت بمستويات كبيرة يوم الاثنين الماضي مذكرة العالم بيوم شبيه بالذي حفر بالذاكرة باسم الاثنين الأسود عام 1987م والتي كانت سببا في إفلاسات كبيرة للمتداولين وحالات انتحار وعين آلان جرينسبان على رأس الفيدرالي الأمريكي لكي يضع سياسات تعالج آثار الأزمة وتمنع تكرارها، لكن فقاعة الدوت كوم بعدها بنحو ثلاثة عشر عاما أطاحت بكل ما فعله الفيدرالي ولم يكادوا يخرجوا من آثارها حتى جاءت الأزمة المالية العالمية عام 2008 لتنهار معها بنوك عمرها تجاوز 150 عاما مثل ليمان براذرز، لكن هذه الكوارث في الأسواق لم تقف عند حدود معالجة انهيارات أسواق. ففي النهاية عادت للارتفاع مجددا حتى انهيارها بجائحة كورونا قبل أربعة أعوام تم استيعابه وحققت المؤشرات أرقاما غير مسبوقة.
لكن الانهيارات الحالية في الأسواق ليست كسابقتها التي كان أغلبها نابعا من أزمة ثقة تم تجاوزها بالحلول السحرية التي أطلقها الفيدرالي الأمريكي أو وزارة الخزانة وسياسات الحكومة الأمريكية ومعها البنوك المركزية في أوروبا واليابان والصين ودول مجموعة العشرين، فقد كانت الذخيرة كبيرة لمواجهة الأزمات وكل دولة تضع سياسات بحسب تأثرها وقوة مركزها المالي والحلول التي تناسبها إلا أن الاقتصادات الكبرى وتحديدا أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي كانت سياساتهم قائمة بشكل أساسي على خفض الفائدة لمستويات صفرية تقريبا وضخ جبال من الأموال تحت ما يسمى التيسير الكمي يضاف لها سياسات مالية توسعية لمنع الوقوع في أزمة اقتصادية كان نتيجتها ارتفاع حجم الديون السيادية لأرقام فلكية، فأمريكا تخطى دينها السيادي 35 تريليون دولار حاليا وهو ما يتجاوز 130 في المائة من ناتجها الإجمالي ويعادل 35 في المائة من الناتج الإجمالي الدولي، أما إجمالي اادين العالمي فوصل إلى نحو 310 تريليونات دولار وأصبح قنبلة نووية موقوتة ونبهت دول مجموعة العشرين بأكثر من مناسبة لخطورتها وأخذت بعض الإجراءات الاحترازية لكن بالعودة للواقع الاقتصادي الحالي فإن بوادر حدوث ركود تضخمي في أمريكا أصبحت قريبة جدا، فأرقام توليد الوظائف للشهر الرابع تتراجع والرقم الأخير كان شرارة النزول القوي بالأسواق، فالتوقعات كانت عند 185 ألف وظيفة بينما ما تحقق كان 114 ألفا وارتفعت البطالة إلى ما فوق 4 في المائة إلا أن اللافت هو إعادة تقييم الوضع الاقتصادي وما هي الاحتمالات المقبلة.
هنا يبرز تصرف كبار المستثمرين وعلى راسهم وارن بافيت الذي باع الكثير من الأسهم في شركات عملاقة مثل أبل وبنك أوف أمريكا منذ بداية العام ووصل حجم النقد لدى مجموعته الاستثمارية إلى 277 مليار دولار، بل زاد على ذلك بأن تملك سندات خزانة بقيمة 234 مليار دولار متفوقا على حجم حيازة الفيدرالي الأمريكي منها عند 195 مليار دولار وهذا يعني أنه يحتاط من التضخم والركود المحتمل، إضافة إلى عدم ثقته ألا يؤدي الوضع الاقتصادي القاتم إلى اهتزاز بعض البنوك، فبذلك يحمي هذه الأموال لأنها ربطت بسندات الخزينة الأمريكية وسيكون مستفيدا بكل الأحوال أي في حال تم تخفيض الفائدة أو إبقائها على حالها أو حتى ارتفاعها ومن هذه التوجهات واهتزاز الثقة بالفيدرالي الأمريكي الذي بعد ان اتهم بتأخره في رفع الفائدة سابقا واعتراف رئيسه بهذا الخطأ عندما قال إن تقديرهم للتضخم كان خاطئا وانه عميق وليس عابرا وقام بعمليات رفع فائدة متسارعة أضرت البنوك وقطاع الأعمال والأفراد عاد حاليا لارتكاب نفس الخطأ حيث تأخر بخفض الفائدة وأغلب المحللين كانت رؤيتهم أن الخفض يفترض أنه بدأ به في مارس الماضي وأن هذا التأخير سيكون له ثمن وهو هذه المرة ركود اقتصادي، إن هذه التوقعات الصادمة للأسواق مشكلتها تتمحور حول عدم وجود حلول ضخمة لمعالجة أزمة اقتصادية في أمريكا مستقبلا فالعودة للتيسير الكمي تعني تضخما أكبر وكذلك خفض الفائدة لمستويات متدنية جدا كما في السابق واستمرار الخزانة الأمريكية برفع حجم الدين لتنشيط الاقتصاد سيواجه بتحديات كبيرة منها القدرة على السداد لأصل الدين وأيضا تحديات تشريعية تقف بوجه طوفان الديون والتي ستضعف الدولار وقد يؤدي أي احتمال تأخر سداد هذه السندات لخفض التصنيف الائتماني الأمريكي وتصبح الأمور أكثر تعقيدا كما ظهرت بوادر زيادة التعثر بسداد ديون بطاقات الائتمان بنحو 9 في المائة، بعد أن وصل حجم ديون هذه البطاقات إلى 1.1 تريليون دولار أي أن الأزمة الاقتصادية إذا وقعت ستكون عميقة ومركبة ومتشعبة بتداعياتها المالية والاجتماعية.
حال الاقتصاد الأمريكي الذي يشير إلى أنه قريب من الركود يستدعي حالة طوارئ دولية ويجب التحوط لها جيدا فاقتصادهم يمثل 26 في المائة من الاقتصاد العالمي وسيكون له تأثير على أوروبا والصين وأغلب الدول وهو ما يتطلب فعليا إعادة تقييم لآثار هذه الاحتمالات السلبية واثرها على أسواق السلع والنفط والغاز والمعادن تحديدا ومدى أثر الحلول التي سيخذونها فيما لو تحقق احتمال الركود فالصين والاتحاد الأوروبي حجم صادراتهما لأمريكا يتجاوز تريليون دولار سنويا وأي تراجع بحجم الاستهلاك الأمريكي لها يعني ضعفا بالطلب على السلع والمشتقات المنتجة منها وبذلك ستكون الآثار واسعة عالميا وسينعكس ذلك في أسواق المال مباشرة فالارتدادات التي حصلت بالأسواق الأمريكية تقنيا تندرج تحت تأخر خروج كبار المضاربين مبدئيا ويقومون بالتقاط الأنفاس والقيام بارتفاعات هدفها البيع لتغطية مراكزهم وإخراج سيولة من السوق استعدادا لأي تطورات سلبية خصوصا أن مشكلة سلاسل الإمداد بسبب إقفالات كورونا السابقة لم تنته تماما والأحداث الجيوسياسية تتطور إلى مزيد من التصعيد في أكثر من موقع وتحديدا حرب روسيا وأوكرانيا وكذلك المواجهة المرتقبة بين إسرائيل وإيران، فكل ذلك يمثل ضغوطا إضافية على الاقتصاد العالمي ويتطلب متابعة لصيقة لكل حدث ومدى تأثيره على العالم وكيفية التحوط من أضراره الاقتصادية والمالية.