من المدهش أن تسمع برئيس تنفيذي تخلى عن منصبه في قيادة شركة كبيرة أو في جهات حكومية مهمة رغم حجم المكافآت فيها، من المدهش أيضا أن أحد تلك الأسباب الكامنة هو ضغوط لجان الحوكمة. من جانب آخر وفي اجتماع مهم قبل أيام مع من يؤيد وبقوة أن يكون الرئيس التنفيذي للشركة هو نفسه رئيس مجلس الإدارة، لقد تفاعلت سلبا مع هذه الدعوة، لكن ما إن تأملت فيها وحيدا وبهدوء، تبين لي أننا كمنظرين لعلم الحوكمة، وأكاديميين متزمتون ومتشددون بالمفاهيم العالية للحوكمة قد -وقد هنا للاحتمال- تنقصنا الحصافة التطبيقية والمرونة التي تفرضها الممارسة. فإذا تأملت في شأن شركة بناها صاحبها ليلا ونهارا وهو أكبر مالك لأسهمها، شكل لسنوات مفاهيم عملها وثقافتها، وهو يريد التحول بها لشركة مساهمة يكتشف أن عليه التخلي عن منصب الرئيس التنفيذي ويصبح بعيدا عن شركته، إلا من خلال اجتماعات مجلس الإدارة محدودة العدد، ووفقا لحوكمة تشترط وجود لجان من أعضاء مستقلين ترسم حدودا فاصلة بينه وبين الإدارة التنفيذية، ويصبح إقناع هذه اللجان أصعب من إقناع المستثمرين، فإن هذا الشخص لن يقبل بالتحول إلى شركة مدرجة في سوق الأسهم، وإذا رضي تحت إغراء سعر السهم فإن الشركة بعيدا عنه تتغير ثقافتها بسرعة وفقا لإدارتها الجديدة ثم تبدأ في التراجع وأخيرا تتم محاسبته على أساس أنه ضلل المستمرين بتضخيم توقعاته عن أداء الشركة المستقبلي، هذه التحولات في نظري لم ندرسها جيدا نحن الأكاديميين وبدقة قبل أن نشدد على الحوكمة.
في جانب آخر كنت في اجتماع مع رئيس تنفيذي لجهة ما، وهو أشبه بمن وقع بين مطرقة وسندان، بين اللجنة التنفيذية ولجنة الترشيحات فإذا هو أقنع اللجنة التنفيذية بضرورة وجود إدارة مختصة بشأن ما حتى ترفض لجنة الترشيحات وكلتاهما متشبثة باختصاصها، بل هناك لجان ترفض كل مقترحات الرئيس التنفيذي، دون أسباب وجيهة، وليس هناك آليات للفصل سوى العودة لمجلس الإدارة لكن هذا كمن يهرب من الرمضاء للنار، فهو إن فعل ذلك خسر على أي حال ومهما كانت نتيجة الصراع، لقد كنت شاهد عيان على تداخل الاختصاصات في عدد من الحالات حيث يبذل الرئيس التنفيذي جهده في خطة استراتيجية ومعه اللجنة التنفيذية لتطلب لجنة المراجعة النظر فيها وتقييمها، وإذا عمل جهده لبناء هيكل تنظيمي تريد لجنة الترشيحات تعديله، هكذا في دوائر لا نهاية لها وقد يستمر العمل بهياكل مؤقتة ما بقيت اللجان وبقي الرئيس، لدرجة أن مناقشة رئيس تنفيذي عن ضرورة وجود لجنة جديدة للحوكمة يواجه بمعارضه من يدرك حجم المعاناة التي سيجدها، خاصة إذا كان لأعضاء اللجان ثقافة عمل وتدريب مختلف عن خبرات الرئيس التنفيذي وليس هناك معايير مرجعية مستقرة، وحتى لو وجدت هذه المعايير فإن النقاش سيستمر من أجل إخضاع الرئيس التنفيذي ومستشاريه لاختيارات اللجنة، رغم أن في نهاية المطاف سيتحمل "وحيدا" الإخفاق ويتم عزله.
لا شك أن هناك دراسات أجريت حول علاقة الرئيس التنفيذي المفرط بالثقة بحجم خسائر الشركة والأسهم، وهناك حالات مشهورة، لكن في مقابل ذلك يوجد عديد من الرؤساء التنفيذيين المعتدلين الراغبين في تحقيق الإنجاز لكنهم يواجهون لجانا أعضاؤها مفرطون في الثقة، والنتيجة في كلا الحالتين واحدة، يجب أن ألفت الانتباه إلى أن قواعد الحوكمة أتت في ظل ظروف وأزمات مالية وفشل الأسواق لذلك كانت الجهات التشريعية متشددة جدا، كردة فعل أولا، ولأنها تريد تهدئة خواطر المستثمرين، لكن هذا التشدد أنتج حالة عكسية؛ لذا يجب علينا إعادة ترتيب الحديث عن الحوكمة بطريقة تخفف حدة تدخل لجان الحوكمة في أعمال الجهاز التنفيذي واختياراته، وعودة لجان الحوكمة لدورها الرقابي "الداعم" والمستقل، والاستقلال هنا لا يعني أكثر من "فحص" اختيارات الإدارة التنفيذية وأنها في مصلحة المنشأة.
نقلا عن الاقتصادية